سورة الأنبياء

بسم الله الرحمن الرحيم :

قوله تعالى : مَا یَأۡتِیهِم مِّن ذِكۡرࣲ مِّن رَّبِّهِم مُّحۡدَثٍ إِلَّا ٱسۡتَمَعُوهُ وَهُمۡ یَلۡعَبُونَ ۝٢

  • ما يأتيهم من ذكر : في الذكر هنا ثلاثة أقوال :

١- الذكر هنا ما ينزل من القرآن ، ومحدث أي نزوله وإتيانه إياهم لا هو في نفسه ونسبه ابن الجوزي لابن عباس. وبهذا الاعتبار يكون ( محدث ) أي نزوله لأنه نزل منجماً

٢- الذكر هنا أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر الشريعة ووعظه وتذكيره فهو محدث على الحقيقة، وجعله من ربه من باب أن النبي صلى عليه وسلم لا ينطق عن الهوى. قال ابن الجوزي : حكاه أبو سليمان الدمشقي، وقال النقاش : هو ذكر من رسول الله ، وليس بالقرآن.

٣- الذكر هنا هو الرسول صلى عليه وسلم نفسه من قوله تعالى : قد أنزل الله إليكم ذكراً ، رسولاً يتلو عليكم آيات الله مبينات)

وقد حكى هذه الأقوال الثلاثة ابن عطية ، ولم ينسبها قائليها بينما ذكر القرطبي في تفسيره ومن قبله ابن الجوزي أن صاحب القول الثالث وهو الحسين بن الفضل : حيث قال :

وقيل: الذكر الرسول نفسه، قاله الحسين بن الفضل بدليل ما في سياق الآية ﴿هل هذا إلا بشر مثلكم﴾ [الأنبياء: ٣] ولو أراد بالذكر القرآن لقال: هل هذا إلا أساطير الأولين، ودليل هذا التأويل قوله تعالى: ﴿ويقولون إنه لمجنون. وما هو إلا ذكر للعالمين﴾(٣) [القلم: ٥٢ – ٥١] يعني محمدا ﷺ. وقال: ﴿قد أنزل الله إليكم ذكرا. رسولا ١٠﴾ [الطلاق: ١١ – ١٠]. “إلا استمعوه” يعني محمدا ﷺ، أو القرآن من النبي ﷺ أو من أمته.

الحسين بين الفضل : مفسر من القرن الثالث الهجري توفي سنة (٢٨٢ هـ) ، جمعت أقواله في التفسير الدكتورة نادية النفسية في رسالة دكتوراة بعنوان :  أقوال الحسين بن الفضل في التفسير  ) 

والأرجح من هذه الأقوال :

أن الذكر المقصود هنا هو القرآن ، لأن السورة مكية باتفاق ، ولم يكن في ذلك الوقت غير القرآن مما يذكر ويعظ النبي صلى الله عليه وسلم  قريشا فلا معنى لصرف المعنى الظاهر من القرآن لأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم  أو الرسول صلى الله عليه وسلم  عليه وسلم نفسه، وما استدل به القائلون من الآيات أن الذكر هنا هو الرسول صلى الله عليه وسلم  نفسه ، يمكن توجيهه بسهولة. ولا معنى لاحتجاج المعتزلة بهذه الآية على خلق القرآن لأن محدث تتجه لتوقيت نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم  وقد نزل منجماً باتفاق . وهذا قول ابن عباس كما هو مذكور سابقاً والله أعلم .

  • وأسروا النجوى الذين ظلموا

يرجح ابن عطية أن القرآن ليس فيه لغة أكلوني البراغيث ويذهب مذهب سيبويه في اعتبار الفاعل واو الجماعة والذين بدل عنها. وهذا مبحث نحوي ليس على شرط الكتاب ،

 

  • فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون

من هم أهل الذكر هنا ؟

فيها قولان : الأول : أنهم أهل الكتاب وقد روي عن عبدالله بن سلام أنه قال أنا من أهل الذكر ويدخل في هذا قول من قال هم أحبار أهل الكتاب

والثاني : :ما روي عن علي أنه قال أنا من أهل الذكر ، ويدخل فيه من قال إنهم أهل القرآن.

والراجح ترجيح ابن عطية حيث قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا موضع ينبغي أن يتأمل؛ وذلك أن الذكر هو كل ما يأتي من تذكير الله عباده، فأهل القرآن أهل ذكر، وهذا أراد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأما المحال على سؤالهم في هذه الآية فلا يصح أن يكونوا أهل القرآن في ذلك الوقت؛ لأنهم كانوا خصومهم، وإنما أحيلوا على سؤال أحبار أهل الكتاب من حيث كانوا موافقين لهم على ترك الإيمان بمحمد ﷺ، فتجيء شهادتهم – بأن الرسل قديما من البشر لا مطعن فيها – لازمة لكفار قريش.

  • لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم

ذكركم فيها معنيان رئيسيان:

الأول : الذكر الذي أنزله الله إليكم بأمر دينكم وآخرتكم ونجاتكم من عذابه، فأضاف الذكر إليهم حيث هو في أمرهم أو كما قال ابن جرير : فيه حديثكم.

الثاني : فيه شرفكم وذكركم آخر الدهر كما تذكر عظام الأمور، وفي هذا تحريض، ثم تأكد التحريض بقوله: ﴿أفلا تعقلون﴾، وحركهم ذلك إلى النظر. وهذه عبارة ابن عطية. وقال ابن جرير :  عني بالذكر في هذا الموضع: الشرف.  وهذا القول مروي عن ابن عباس.

ونقل ابن كثير عن الحسن : ذكركم : دينكم، وهو يتبع القول الأول عموماً

ونقل أبو حيان قولاً رابعاً حيث قال : وقال صاحب التحرير: الذي يقتضيه سياق الآيات أن المعنى فيه ذكر مشانئكم ومثالبكم وما عاملتهم به أنبياء الله من التكذيب والعناد، فعلى هذا تكون الآية ذما لهم وليست من تعداد النعم عليهم، ويكون الكلام على سياقه ويكون معنى قوله ﴿هل هذا إلا بشر مثلكم﴾ ﴿أفلا تعقلون﴾. ( لم أْعرف كتاب التحرير الذي يشير إليه أبو حيان )

وكما ترى فالقولين الثالث والرابع يدخلان في عموم الأول.

وقد رجح ابن جرير القول الثاني ، حيث قال : قال أبو جعفر: وهذا القول الثاني أشبه بمعنى الكلمة، وهو نحو مما قال سفيان الذي حكينا عنه، وذلك أنه شرف لمن اتبعه وعمل بما فيه.  ويبدو من صنيع ابن عطية أنه يميل لهذا القول أيضا.

والذي يبدو لي أن المعنيين محتملان ، ولا مرجح، والله أعلم.

 

  • لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين

معظم أقوال المفسرين على أن اللهو هنا بمعنى المرأة أو الزوجة . قال ابن عطية : ظاهر هذه الآية الرد على من قال من الكفار أمر مريم وما ضارعه من الكفر، تعالى الله عن قول المبطلين، و”اللهو” في هذه الآية: المرأة، وروي أنها في بعض لغات العرب تقع على الزوجة، و”إن” في قوله: ﴿إن كنا فاعلين﴾ يحتمل أن تكون الشرطية، بمعنى: لو كنا فاعلين، ولسنا كذلك، وللمتكلمين هنا اعتراض وانفصال، ويحتمل أن تكون نافية، بمعنى “ما”، وكل هذا قد قيل.

 

  • وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون

قال ابن الجوزي :
وفي قوله: ﴿ولا يستحسرون﴾ ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يرجعون، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثاني: لا ينقطعون، قاله مجاهد. وقال ابن قتيبة: لا يعيون، والحسر: المنقطع الواقف إعياء وكلالا.
والثالث: لا يملون، قاله ابن زيد.

أضاف الماوردي رابعاً :  لا يَسْتَنْكِفُونَ، قالَهُ الكَلْبِيُّ.

وأما لفظ يستحسر فأفضل من شرحها لغة أبو حيان حيث قال :

ويقال: حسر البعير واستحسر كل وتعب، وحسرته أنا، فهو متعد ولازم، وأحسرته أيضا، وقال الشاعر:

بها جيف الحسرى فأما عظامها ∗∗∗ فبيض وأما جلدها فصليب

قال الزمخشري: فإن قلت: الاستحسار مبالغة في الحسور، وكان الأبلغ في وصفهم أن ينفي عنهم أدنى الحسور، قلت: في الاستحسار بيان أن ما هم فيه يوجب غاية الحسور وأقصاه، وأنهم أحقاء لتلك العبادات الباهظة بأن يستحسروا فيما يفعلون. انتهى.

وزاد أبو السعود كلام الزمخشري توضيحاً فقال :
﴿ولا يستحسرون﴾ ولا يكلون ولا يعيون. وصيغة الاستفعال المنبئة عن المبالغة في الحسور للتنبيه على أن عباداتهم بثقلها ودوامها حقيقة بأن يستحسر منها ومع ذلك لا يستحسرون. “لا” لإفادة نفي المبالغة في الحسور مع ثبوت أصله في الجملة. كما أن نفي الظلامية في قوله تعالى: ﴿وما أنا بظلام للعبيد﴾ لإفادة كثرة الظلم المفروض تعلقه بالعبيد، لا لإفادة نفي المبالغة في الظلم مع ثبوت أصل الظلم في الجملة.

وسترى أن معظم المفسرين يرجحون أن يستسحرون هنا بمعنى يملون، وهو الذي يقتضيه السياق واللغة والله أعلم.

  • لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ

معظم المفسرين على أن الآية لها معنى واحد وهو المعنى الظاهر من الآية، والذي عبر عنه ابن جرير بقوله :
يقول تعالى ذكره: لا سائل يسأل رب العرش عن الذي يفعل بخلقه من تصريفهم فيما شاء من حياة وموت وإعزاز وإذلال، وغير ذلك من حكمه فيهم؛ لأنهم خلقه وعبيده، وجميعهم في ملكه وسلطانه، والحكم حكمه، والقضاء قضاؤه، لا شيء فوقه يسأله عما يفعل فيقول له: لم فعلت؟ ولمَ لم تفعل؟

غير أن ابن عطية ذكر معنى آخر حيث قال بعد أن ذكر المعنى الأول : وإما أن يريد أنه محكم الأفعال وواضع كل شيء موضعه، فليس في أفعاله سؤال ولا اعتراض. وهؤلاء من البشر يسألون لهاتين العلتين؛ لأنهم ليسوا مالكين، ولأنهم في أفعالهم خلل كثير.

    •  يرى ابن عاشور أن جملة : لا يسأل عما يفعل وهم يسألون جملة حالية قال في تفسيره :

الأظهر أن هذه الجملة حال مكملة لمدلول قوله تعالى: ﴿لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون﴾ [الأنبياء: ١٩] كما تقدم عند قوله تعالى: ﴿أم اتخذوا آلهة من الأرض﴾ [الأنبياء: ٢١] إلخ. فالمعنى أن من عنده – وهم المقربون من المخلوقات – هم مع قربهم يسألون عما يفعلون ولا يسألونه عما يفعل، أي لم يبلغ بهم قربهم إلى حد الإدلال عليه وانتصابهم لتعقب أفعاله.

ثم قال : فالمقصود أن من عنده مع قربهم ورفعة شأنهم يحاسبهم الله على أعمالهم، فهم يخافون التقصير فيما كلفوا به من الأعمال؛ ولذلك كانوا لا يستحسرون ولا يفترون. وبهذا تعلم أن ضمير ”﴿وهم يسألون﴾“ ليس براجع إلى ما رجع إليه ضمير ”يصفون“؛ لأن أولئك لا جدوى للإخبار بأنهم يسألون؛ إذ لا يتردد في العلم بذلك أحد، ولا براجع إلى ”﴿آلهة من الأرض﴾ [الأنبياء: ٢١]“؛ لعدم صحة سؤالهم، وذلك هو ما دعانا إلى اعتبار جملة ”﴿لا يسأل عما يفعل﴾“ حالا من ”من عنده“

والذي يظهر أن سياق الآيات كلها قبل هذه الآية وبعدها لا تخدم غرض ابن عاشور، لأن الأظهر أن هذه الآية جاءت معززة للآية السابقة ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) فهي في سياق إبطال حجج المشركين، وتوضيح أن الله عز وجل له مطلق التصرف في كونه ولا أحد يحاسبه أو يسأله عن شيء مطلقاً، بينما كل المخلوقات تخضع للسؤال والمحاسبة ، ومنها آلهتهم التي زعموها آلهة. ويشمل هذا من عبد من غير الله من المخلوقين، فكلهم خاضع للسؤال والمحاسبة على أية حال. والله أعلم.

ونقل القاسمي في توضيح المقصود بالسؤال هنا عبارة الغزالي بقوله :

قال الإمام الغزالي في (المضنون به على غير أهله): وأما معنى قول الله تعالى: ﴿لا يسأل عما يفعل وهم يسألون﴾ وقوله تعالى: ﴿قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا﴾ [طه: ١٢٥] فالسؤال قد يطلق ويراد به الإلزام. يقال: ناظر فلان فلانا وتوجه عليه سؤاله. وقد يطلق ويراد به الاستخبار، كما يسأل التلميذ أستاذه. والله تعالى لا يتوجه عليه السؤال بمعنى الإلزام. وهو المعني بقوله: ﴿لا يسأل عما يفعل﴾ إذ لا يقال لم قول إلزام. فأما أن لا يستخبر ولا يستفهم، فليس كذلك. وهو المراد بقوله: ﴿لم حشرتني أعمى﴾

 

  • أَمِ ٱتَّخَذُوا۟ مِن دُونِهِۦۤ ءَالِهَةࣰۖ قُلۡ هَاتُوا۟ بُرۡهَـٰنَكُمۡۖ هَـٰذَا ذِكۡرُ مَن مَّعِیَ وَذِكۡرُ مَن قَبۡلِیۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ ٱلۡحَقَّۖ فَهُم مُّعۡرِضُونَ

معظم المفسرين على أن هذا ذكر من معي يعني القرآن فيه ذكر أمة المسلمين ، وذكر من قبلي أنها الكتب السابقة .. لكن ابن عطية له إضافة على الموضوع ، حيث جعل الإشارة في ( هذا ) تحتمل الكتب المنزلة جميعها قديمها وحديثها ، وأن ليس فيها أي برهان على اتخاذ الآلهة من دون الله بل فيها ضد ذلك من وحدانية الله. ويحتمل أن هذا يعني القرآن ،

ولنقرأ عبارته ففيها ملحظ جميل يجلي معنى الأية :
وقوله تعالى: ﴿هذا ذكر من معي وذكر من قبلي﴾ يحتمل أن يريد بـ “هذا” جميع الكتب المنزلة قديمها وحديثها، أي: ليس فيها برهان على اتخاذ الآلهة من دون الله، بل فيها ضد ذلك، ويحتمل أن يريد بقوله: “هذا” القرآن، والمعنى: فيه ذكر الأولين وذكر الآخرين، فذكر الآخرين بالدعوة وبيان الشرع لهم وردهم على طريق النجاة، وذكر الأولين بقص أخبارهم وذكر الغيوب في أمورهم. ومعنى الكلام – على هذا التأويل – عرض القرآن في معرض البرهان، أي: هاتوا برهانكم فهذا برهاني أنا ظاهر في ذكر من معي وذكر من قبلي.

 

  • أَوَلَمۡ یَرَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ أَنَّ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقࣰا فَفَتَقۡنَـٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَاۤءِ كُلَّ شَیۡءٍ حَیٍّۚ أَفَلَا یُؤۡمِنُونَ ۝٣٠﴾

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*