لطائف‭ ‬بلاغية‭  ‬ولغوية‭  ‬من‭  ‬سورة‭ ‬يوسف

بسم‭ ‬الله‭ ‬الرحمن‭ ‬الرحيم‭ ‬

الحمدلله‭ ‬وكفى‭ ‬وسلام‭ ‬على‭ ‬عباده‭ ‬الذين‭ ‬اصطفى‭ ‬وبعد،

لما‭ ‬تحدى‭ ‬القرآن‭ ‬العرب‭ ‬بأن‭ ‬يأتوا‭ ‬بمثله،‭ ‬أقر‭ ‬له‭ ‬فصحاؤهم‭ ‬بأنه‭ ‬معجز‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يأتوا‭ ‬بما‭ ‬يدانيه‭ ‬في‭ ‬الفصاحة‭ ‬والبلاغة‭ ‬وأنه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬كلام‭ ‬البشر‭. ‬

ولما‭ ‬انتشر‭ ‬الإسلام‭ ‬في‭ ‬أرجاء‭ ‬الأرض‭ ‬تغنى‭ ‬المسلمون‭ ‬بإعجازه‭ ‬فخراً‭ ‬وتيهاً‭ ‬على‭ ‬بقية‭ ‬الأمم‭ ‬وتكلم‭ ‬أهل‭ ‬العلم‭ ‬والأدب‭ ‬عن‭ ‬وجوه‭ ‬بلاغته‭ ‬وفصاحته‭ ‬وعن‭ ‬إعجازه،‭ ‬واقترب‭ ‬بعضهم‭ ‬كالجرجاني‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يلمس‭ ‬أطراف‭ ‬هذا‭ ‬الإعجاز‭ ‬بأنامله‭ ‬بعدما‭ ‬جال‭ ‬في‭ ‬فسيح‭ ( ‬النظم‭ ‬القرآني‭ ) ‬متتبعاً‭ ( ‬الدلائل‭ ‬‭) ‬التي‭ ‬جعلته‭ ‬يكتب‭ ‬في‭ ‬تمهل‭ ‬وأناة‭ ( ‬دلائل‭ ‬الإعجاز‭ ) ‬

وهذا‭ ‬عبدالله‭ ‬دراز‭ ‬يخبر‭ ‬الناس‭ ‬عن‭ ( ‬النبأ‭ ‬العظيم‭ ) ‬الذي‭ ‬شغله‭ ‬حتى‭ ‬أبان‭ ‬بعضاً‭ ‬من‭ ‬أحوال‭ ‬هذا‭ ‬النبأ‭ ‬العظيم‭ ‬

ومن‭ ‬ارتاض‭  ‬في‭ ‬رياض‭ ‬العربية‭ ‬ونهل‭ ‬من‭ ‬معينها‭ ‬وقرأ‭ ‬صحيح‭ ‬شعرها‭ ‬ونثرها‭ ‬،‭ ‬وتشربت‭ ‬نفسه‭ ‬بالكلام‭ ‬البليغ‭ ‬،‭ ‬فإنه‭ ‬إذا‭ ‬جاء‭ ‬عند‭ ‬القرآن‭ ‬وجدا‭ ‬شيئاً‭ ‬فوق‭ ‬طاقة‭ ‬وقدرة‭ ‬البشر‭ ‬،‭ ‬ولذا‭ ‬قال‭ ‬الوليد‭ ‬بن‭ ‬المغيرة‭ ‬واصفاً‭ ‬القرآن‭ ‬وهو‭ ‬غير‭ ‬مسلم‭ :  «والله‭ ‬إن‭ ‬لقوله‭ ‬الذي‭ ‬يقول‭ ‬لحلاوة،‭ ‬وإن‭ ‬عليه‭ ‬لطلاوة‭ ‬وإنه‭ ‬لمثمر‭ ‬أعلاه،‭ ‬مغدق‭ ‬أسفله،‭ ‬وإنه‭ ‬ليحطم‭ ‬ما‭ ‬تحته،‭ ‬وإنه‭ ‬ليعلو‭ ‬وما‭ ‬يعلى‭ ‬عليه»‭.‬

وكل‭ ‬القرآن‭ ‬معجز‭ ‬في‭ ‬لفظه‭ ‬ومعناه،‭ ‬وغاية‭ ‬جهد‭ ‬القاريء‭ ‬أن‭ ‬يتلمس‭ ‬ويحاول‭ ‬توصيف‭ ‬هذا‭ ‬الإعجاز‭ ‬بما‭ ‬يسر‭ ‬الله،‭ ‬كما‭ ‬سنحاول‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬إن‭ ‬شاء‭ ‬الله‭.‬

في‭ ‬مفهوم‭ ‬الإعجاز‭ ‬في‭ ‬القرآن

قد‭ ‬تكلم‭ ‬علماء‭ ‬العربية‭ ‬وأهل‭ ‬البلاغة‭ ‬واللغة‭ ‬والمفسرون‭ ‬وكثير‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬العلم‭ ‬في‭ ‬أسباب‭  ‬كون‭ ‬القرآن‭ ‬معجز‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬الإتيان‭ ‬بمثله،‭ ‬ولماذا‭ ‬التحدي‭ ‬المفتوح‭ ‬الذي‭ ‬ورد‭  ‬في‭ ‬قوله‭ ‬تعالى‭ :‬
قُلْ‭ ‬لَئِنِ‭ ‬اجْتَمَعَتِ‭ ‬الْأِنْسُ‭ ‬وَالْجِنُّ‭ ‬عَلَى‭ ‬أَنْ‭ ‬يَأْتُوا‭ ‬بِمِثْلِ‭ ‬هَذَا‭ ‬الْقُرْآنِ‭ ‬لا‭ ‬يَأْتُونَ‭ ‬بِمِثْلِهِ‭ ‬وَلَوْ‭ ‬كَانَ‭ ‬بَعْضُهُمْ‭ ‬لِبَعْضٍ‭ ‬ظَهِيراً‭ [‬الإسراء‭:‬88‭].‬

لماذا‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬الرد‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬التحدي‭ ‬ولا‭  ‬إبطاله،‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬طائل‭ ‬من‭ ‬إعادته‭ ‬هنا‭ ‬،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬مسألة‭ ‬فارقة‭ ‬قد‭ ‬يعين‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬هذا‭ ‬التحدي،‭ ‬وذلك‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬تحليل‭ ‬الخطاب‭ ‬لمحاولة‭ ‬فهمه‭:‬

فالقرآن‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬تحداهم‭ ‬بالأكبر‭ ‬بأن‭ ‬يأتوا‭ ‬بمثله،‭  ‬فلما‭ ‬عجزوا‭ ‬،‭ ‬تحداهم‭ ‬بعشر‭ ‬سور،‭ ‬فلما‭ ‬عجزوا‭ ‬طلب‭ ‬سورة‭ ‬واحدة‭ ‬فقط،‭ ‬فلما‭ ‬عجزوا‭ ‬أعلن‭ ‬أنهم‭ ‬لو‭ ‬اجتمعوا‭ ‬وحضر‭ ‬معهم‭ ‬الجن‭ ‬ظهراء‭ ‬لهم‭ ‬فلن‭ ‬يأتوا‭ ‬بمثله‭ ‬أبداً‭!‬

والسؤال‭ ‬لماذا‭ ‬؟‭ ‬وما‭ ‬معنى‭ ‬المثلية‭ ‬في‭ ‬الآية‭ ‬؟‭ ‬هل‭ ‬المقصود‭ ‬بها‭ ‬اللفظ‭ ‬نفسه‭ ‬؟‭ ‬أم‭ ‬المعنى‭ ‬؟‭ ‬أم‭ ‬الاثنين؟‭  ‬ستجد‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬تكلم‭ ‬عن‭ ‬أوجه‭ ‬الإعجاز‭ ‬من‭ ‬البلاغيين‭ ‬ربما‭ ‬شرح‭ ‬لك‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬ببلاغة‭ ‬الألفاظ‭ ‬والأساليب‭ ‬ونحوها‭ ‬لتظهر‭ ‬لك‭ ‬نظرية‭ ( ‬النظم‭ ) ‬عند‭ ‬الجرجاني‭ ‬،والبعض‭ ‬يشرح‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالمعاني‭  ‬وكون‭ ‬القرآن‭ ‬يأتي‭ ‬بالمعجز‭ ‬من‭ ‬أخبار‭ ‬المستقبل‭ ‬،‭ ‬والمعجز‭ ‬من‭ ‬أخبار‭ ‬الماضي‭ ‬،‭ ‬ويأتي‭ ‬بالأحكام‭ ‬العادلة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬حكمة‭ ‬بعدها‭ ‬حتى‭ ‬يقول‭ ‬الشاطبي‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬جميل‭ ‬سأنقله‭  ‬بنصه‭ : ‬

«إن‭ ‬كتاب‭ ‬الله‭ ‬قد‭ ‬تقرر‭ ‬أنه‭ ‬كلية‭ ‬الشريعة،‭ ‬وعمدة‭ ‬الملة،‭ ‬وينبوع‭ ‬الحكمة،‭ ‬وآية‭ ‬الرسالة،‭ ‬ونور‭ ‬الأبصار‭ ‬والبصائر،‭ ‬وأنه‭ ‬لا‭ ‬طريق‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬سواه،‭ ‬ولا‭ ‬نجاة‭ ‬بغيره،‭ ‬ولا‭ ‬تمسك‭ ‬بشيء‭ ‬يخالفه‭. ‬وهذا‭ ‬لا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬تقرير‭ ‬واستدلال‭ ‬عليه؛‭ ‬لأنه‭ ‬معلوم‭ ‬من‭ ‬دين‭ ‬الأمة‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬كذلك‭ ‬لزم‭ ‬ضرورة‭ ‬لمن‭ ‬رام‭ ‬الاطلاع‭ ‬على‭ ‬كليات‭ ‬الشريعة‭ ‬وطمع‭ ‬في‭ ‬إدراك‭ ‬مقاصدها،‭ ‬واللحاق‭ ‬بأهلها،‭ ‬أن‭ ‬يتخذه‭ ‬سميره‭ ‬وأنيسه،‭ ‬وأن‭ ‬يجعله‭ ‬جليسه‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬الأيام‭ ‬والليالي،‭ ‬نظراً‭ ‬وعملاً،‭ ‬لا‭ ‬اقتصاراً‭ ‬على‭ ‬أحدهما،‭ ‬فيوشك‭ ‬أن‭ ‬يفوز‭ ‬بالبغية،‭ ‬وأن‭ ‬يظفر‭ ‬بالطلبة،‭ ‬ويجد‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬السابقين‭ ‬وفي‭ ‬الرعيل‭ ‬الأول‭.‬»

فإذا‭ ‬علم‭ ‬هذا،‭ ‬فأين‭ ‬يكمن‭ ‬الإعجاز‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد؟‭ ‬

كل‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬ذكره‭ ‬صحيح،‭ ‬لكن‭ ‬الحد‭ ‬الفاصل‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يغيب‭ ‬عن‭ ‬الذهن‭ ‬في‭ ‬خضم‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الصورة‭ ‬الجزئية‭ ‬أن‭ ‬ننظر‭ ‬في‭ ‬الصورة‭ ‬الكلية‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬القرآن‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬كلام‭ ‬الخالق،‭ ‬فمن‭ ‬البدهي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬المستحيل‭ ‬عقلاً‭ ‬وكوناً‭ ‬على‭ ‬البشر‭ ‬أن‭ ‬يأتوا‭ ‬بمثل‭ ‬كلام‭ ‬الخالق‭ ‬،‭ ‬فهو‭ ‬الخالق‭ ‬سبحانه‭ ‬كلي‭ ‬القدرة‭ ‬وكلي‭ ‬العلم،‭ ‬لا‭ ‬تنفد‭ ‬كلماته‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬البحر‭ ‬مدادا‭ ‬لكلماته‭ ‬سبحانه‭ ‬لنفد‭ ‬البحر‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تنفد‭ ‬كلماته،‭ ‬وكلام‭ ‬البشر‭ ‬ينفد،‭ ‬يعلم‭ ‬سبحانه‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬والبشر‭ ‬لا‭ ‬يعلمون‭ ‬شيئا‭  ‬إلا‭ ‬ما‭ ‬علمهم‭ ‬وجعل‭ ‬لهم‭ ‬السمع‭ ‬والأبصار‭ ‬والأفئدة‭!‬

وهذا‭ ‬الإعجاز‭ ‬مثل‭ ‬تحدي‭ ‬الإعجاز‭ ‬بالخلق‭ ‬عندما‭ ‬قرر‭ ‬القرآن،‭ ‬أنهم‭ ‬لن‭ ‬يستطيعوا‭ ‬أن‭ ‬يخلقوا‭ ‬ذبابا‭ ‬ولو‭ ‬اجتمعوا‭ ‬له‭!‬

وقد‭ ‬يقال‭ ‬إنه‭ ‬في‭ ‬مسألة‭ ‬الخلق‭ ‬لم‭ ‬يتحدّهم‭ ‬القرآن،‭ ‬بينما‭ ‬تحداهم‭ ‬في‭ ‬الإتيان‭ ‬بمثل‭ ‬هذا‭ ‬القرآن‭ ‬،‭ ‬فهناك‭ ‬فرق‭!‬

والجواب‭ ‬أن‭ ‬الخلق‭ ‬لا‭ ‬يدخل‭ ‬في‭ ‬حساب‭ ‬التحدي‭ ‬لأن‭ ‬البشر‭ ‬عاجزون‭ ‬أصالة‭ ‬عن‭ ‬الخلق،‭ ‬بينما‭ ‬في‭ ‬الكلام‭ ‬لديهم‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬الكلام‭ ‬وتوليد‭ ‬اللفظ‭ ‬والمعنى‭ ‬ولأنهم‭ ‬عرب‭ ‬بلغوا‭ ‬من‭ ‬الفصاحة‭ ‬منتهاها‭ ‬في‭ ‬نظرهم‭ ‬كان‭ ‬لديهم‭ ‬الغرور‭ ‬أن‭ ‬يقولوا‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬دحض‭ ‬حجة‭ ‬النبي‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬وما‭ ‬جاء‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬القرآن‭ ‬،‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الكلام‭ ‬كلام‭ ‬بشر،‭ ‬وأنه‭ ‬من‭ ‬كلام‭ ‬السحرة‭ ‬أو‭ ‬الكهان‭ ‬أو‭ ‬المجانين،‭ ‬فجاء‭ ‬التحدي‭ ‬رداً‭ ‬على‭ ‬توصيفهم‭ ‬الباطل‭ ‬للقرآن‭.‬

ولما‭ ‬نزل‭ ‬التحدي‭ ‬عجزوا‭ ‬فوراً‭ ‬،‭ ‬لأن‭ ‬هذا‭ ‬التحدي‭ ‬في‭ ‬حقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬التبكيت‭ ‬لهم‭ ‬وإلا‭ ‬فالنتيجة‭ ‬محسومة‭ ‬سلفاً‭ ‬بأنهم‭ ‬لن‭ ‬يستطيعوا‭ ‬هم‭ ‬والجن‭ ‬والإنس‭ ‬مجتمعون‭ ‬أن‭ ‬يأتوا‭ ‬ولو‭ ‬بآية‭ ‬من‭ ‬مثل‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭!‬

لأنه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬بأي‭ ‬حال‭ ‬من‭ ‬الأحوال‭ ‬مقارنة‭ ‬كلام‭ ‬الخالق‭ ‬بكلام‭ ‬المخلوق!

سورة‭ ‬يوسف‭ ‬وأحسن‭ ‬القصص

كل‭ ‬قاريء‭ ‬للقرآن‭ ‬يستقبل‭ ‬القرآن‭ ‬بتأثير‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬غيره‭ ‬بحسب‭ ‬ما‭ ‬وصل‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬العلم‭ ‬بلسان‭ ‬العرب‭ ‬وعلوم‭ ‬الأدب‭ ‬واللغة،‭ ‬وكلما‭ ‬زاد‭ ‬نصيب‭ ‬القارئ‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬العلوم‭ ‬كلما‭ ‬تأثر‭ ‬ببلاغة‭ ‬وفصاحة‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يدانيه‭ ‬شيء‭  ‬وقد‭ ‬حكي‭ ‬أن‭ ‬لبيداً‭ ‬الشاعر‭ ‬المعروف‭ ‬لما‭  ‬أرسل‭ ‬له‭ ‬عمر‭ ‬يستنشده‭  ‬شعره‭ ‬في‭ ‬الإسلام،‭  ‬قال‭: ‬قد‭  ‬أبدلني‭ ‬الله‭ ‬بالشعر‭ ‬سورة‭ ‬البقرة‭ ‬وآل‭ ‬عمران‭.‬

وهكذا‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يبلغ‭ ‬في‭ ‬الفصاحة‭ ‬والبلاغة‭ ‬المكانة‭ ‬العالية‭ ‬يجد‭ ‬أن‭ ‬شيئا‭ ‬من‭ ‬كلام‭ ‬البشر‭ ‬لا‭ ‬يعدل‭ ‬آية‭ ‬من‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭  ‬فيكتفي‭ ‬بكتاب‭ ‬الله‭ ‬يقرأه‭ ‬ويصبح‭ ‬هو‭ ‬الزاد‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يعدله‭ ‬زاد‭  ‬والأنيس‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬أنيس‭ ‬معه،‭ ‬وهذا‭ ‬صحيح‭ ‬يعلمه‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬جرب‭ ‬حفظ‭ ‬جزيل‭ ‬القصائد‭ ‬وبديع‭ ‬النثر‭  ‬والأدب،‭ ‬ثم‭ ‬أكب‭ ‬على‭ ‬القرآن‭ ‬دراسة‭ ‬وحفظا‭..‬

وكل‭ ‬القرآن‭ ‬معجز‭ ‬في‭ ‬لفظه‭ ‬ومعناه،‭ ‬وغاية‭ ‬جهد‭ ‬القاريء‭ ‬أن‭ ‬يتلمس‭ ‬ويحاول‭ ‬توصيف‭ ‬هذا‭ ‬الإعجاز‭ ‬بما‭ ‬يسر‭ ‬الله،‭ ‬ومن‭ ‬السور‭ ‬التي‭  ‬فتن‭ ‬أهل‭ ‬البلاغة‭ ‬والفصاحة‭ ‬بإعجازها‭ ‬سورة‭ ‬يوسف‭ .‬

وقد‭  ‬كانت‭ ‬سورة‭ ‬يوسف‭ ‬سلوة‭ ‬للمحزونين‭ ‬وتصبيراً‭ ‬للمبتلين‭ ‬،‭ ‬حتى‭ ‬قيل‭ ‬إنها‭ ‬نزلت‭ ‬عام‭ ‬الحزن‭ ‬لتسلية‭ ‬النبي‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭  ‬وتخفيف‭ ‬حزنه‭ ‬في‭ ‬وفاة‭ ‬عمه‭ ‬وزوجته‭ ‬خديجة‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنها‭.‬

‭ ‬وكل‭ ‬من‭ ‬أصيب‭ ‬بمصاب‭ ‬إذا‭ ‬قرأ‭ ‬سورة‭ ‬يوسف‭ ‬فسيجد‭ ‬حتماً‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬التعزية‭ ‬والتسلية‭ ‬ما‭ ‬ينسيه‭ ‬هم‭ ‬المصيبة‭ ‬،‭ ‬كما‭ ‬قالت‭ ‬الخنساء‭:‬

ولولا‭ ‬كثرة‭ ‬الباكين‭ ‬حولي‭            ‬على‭ ‬إخوانهم‭ ‬لقتلت‭ ‬نفسي

فمن‭ ‬رأي‭ ‬مصاب‭ ‬يعقوب‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬في‭ ‬ولديه،‭  ‬ويوسف‭ ‬في‭ ‬نفسه‭ ‬هانت‭ ‬عليه‭ ‬مصائبه‭ ‬ولذا‭ ‬قال‭ ‬الله‭ ‬عز‭ ‬وجل‭ ‬عن‭ ‬قصة‭ ‬يوسف‭ ‬﴿نَحْنُ‭ ‬نَقُصُّ‭ ‬عَلَيْكَ‭ ‬أَحْسَنَ‭ ‬الْقَصَصِ‭ ‬بِمَا‭ ‬أَوْحَيْنَا‭ ‬إِلَيْكَ‭ ‬هَذَا‭ ‬الْقُرْآنَ﴾‭ [‬يوسف‭:‬‮٣‬‭].‬

ويقرر‭ ‬ابن‭ ‬عاشور‭ ‬أن‭ ‬أحسن‭ ‬ليس‭ ‬المقصود‭ ‬منها‭ ‬تفضيل‭ ‬قصة‭ ‬يوسف‭ ‬على‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬قصص‭ ‬القرآن‭ ‬،‭ ‬وإنما‭ ‬هي‭ ‬على‭ ‬شرط‭ ‬الإطلاق‭ ‬فقصص‭ ‬القرآن‭ ‬أحسن‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭.‬‭ ‬

وهو‭ ‬معنى‭ ‬كلام‭ ‬الزجاج‭ ‬إذ‭ ‬قال‭ ‬أن‭ ‬أحسن‭ ‬القصص‭ ‬هنا‭ : ‬أحسن‭ ‬البيان‭ ‬،‭ ‬وعقب‭ ‬عليه‭ ‬الواحدي‭ ‬بقوله‭ : ‬لا‭ ‬إلى‭ ‬القصة،‭ ‬ولو‭ ‬قيل‭: ‬أحسن‭ ‬القصص،‭ ‬بكسر‭ ‬القاف‭ ‬على‭ ‬جمع‭ ‬قصة،‭ ‬قلنا‭  ‬نحتاج‭ ‬أن‭ ‬نذكر‭ ‬لم‭ ‬قيل‭ ‬هذه‭ ‬القصة‭ ‬أحسن‭ ‬القصص؟‭. ‬انتهى‭ ‬كلام‭ ‬الواحدي‭. ‬

وإنك‭ ‬إذا‭ ‬تأملت‭ ‬سورة‭ ‬يوسف‭ ‬وجدتها‭ ‬كما‭ ‬وصفها‭ ‬الله‭ ‬عز‭ ‬وجل‭ ‬أحسن‭ ‬القصص‭ ‬،‭ ‬ففيها‭ ‬من‭ ‬أعاجيب‭ ‬القص‭ ‬والحكاية‭ ‬وفيها‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬في‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬القصص‭ .. ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬الثعلبي‭ ‬طرح‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬وحاول‭ ‬الإجابة‭ ‬عليه‭ ‬بحكاية‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الاقوال‭ ‬فلتراجع‭ ‬في‭ ‬تفسيره‭ ‬الكشف‭ ‬والبيان‭. ‬

ويمكن‭ ‬لكل‭ ‬ناظر‭ ‬في‭ ‬سورة‭ ‬يوسف‭ ‬أن‭ ‬يستخرج‭ ‬ماشاء‭ ‬الله‭ ‬من‭ ‬الحكم‭ ‬والفتوحات‭ ‬العلمية‭ ‬والإفادات‭ ‬الجليلة‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يسعه‭ ‬كتاب‭ ‬،‭ ‬لكن‭ ‬المقصود‭  ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الورقات‭ ‬أن‭ ‬نتأمل‭ ‬الإشارة‭ ‬الخفيفة‭ ‬والعبارة‭ ‬اللطيفة‭ ‬،‭ ‬وأن‭ ‬نترسم‭ ‬معالم‭ ‬الإعجاز‭ ‬وأسرار‭ ‬البلاغة‭ ‬وفي‭ ‬سورة‭ ‬يوسف‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬الكثير‭ ‬منها‭ ‬فهذا‭ ‬أوان‭ ‬الشروع‭ ‬في‭ ‬تأمل‭ ‬أسرار‭ ‬السورة‭ ‬الكريمة‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬ترتيب‭ ‬في‭ ‬الآيات‭ ‬وموضعها‭ ‬من‭ ‬السورة‭:‬

سنركز‭ ‬على‭ ‬إعجاز‭ ‬اللفظ‭ ‬المختصر‭ ‬الذي‭ ‬يحمل‭ ‬المشاهد‭ ‬والمعاني‭ ‬الكثيرة‭ ‬في‭ ‬بضع‭ ‬كلمات‭ ‬ونضرب‭ ‬عليها‭ ‬بعض‭ ‬الأمثلة‭ ‬وبالله‭ ‬التوفيق‭.‬

أمثلة‭ ‬من‭ ‬الإيجاز‭ ‬الإعجازي‭ ‬في‭ ‬السورة

المثال‭ ‬الأول‭ : ‬قوله‭ ‬تعالى‭ ‬﴿‭ ‬فَلَمَّا‭ ‬اسْتَيْأَسُواْ‭ ‬مِنْهُ‭ ‬خَلَصُواْ‭ ‬نَجِيًّا

بلاغة‭ ‬هذه‭ ‬الآية‭ ‬وإيجازها‭ ‬إعجاز‭ ‬لا‭ ‬يقدر‭ ‬عليه‭ ‬بشر‭ ‬،‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬القاضي‭ ‬عياض‭ ‬نقل‭ ‬عن‭ ‬أبي‭ ‬عبيد‭ ‬في‭ ‬الشفا‭: ‬أن‭ ‬أعرابياً‭ ‬سمع‭ ‬رجلاً‭ ‬يقرأ‭: ( ‬فلما‭ ‬استيأسوا‭ ‬منه‭ ‬خلصوا‭ ‬نجيا‭ ) ‬،‭ ‬فقال‭ : ‬أشهد‭ ‬أن‭ ‬مخلوقاً‭ ‬لا‭ ‬يقدر‭ ‬على‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الكلام‭.‬

ومهما‭ ‬قال‭ ‬المفسرون‭ ‬فإن‭ ‬الآية‭ ‬نفسها‭ ‬تفصح‭ ‬عن‭ ‬نفسها‭ ‬للمتأمل‭ ‬والمتدبر‭ ‬لها،‭ ‬فإنك‭ ‬ترى‭ ‬القصة‭ ‬والمشهد‭ ‬الطويل‭ ‬من‭ ‬المحاولات‭ ‬المتكررة‭ ‬لإخوة‭ ‬يوسف‭ ‬معه‭ ‬حتى‭ ‬يطلق‭ ‬أخاه‭ ‬ويرسله‭ ‬معهم‭ ‬بعدما‭ ‬أخذه‭ ‬عنده‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬معلوم‭ ‬من‭ ‬الأحداث‭ ‬قبل‭ ‬هذا‭ ‬المشهد،‭ ‬وكأنك‭ ‬تراهم‭ ‬وهم‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬اليأس‭ ‬من‭ ‬المحاولات‭ ‬وطرح‭ ‬المعاذير‭ ‬والأسباب‭ ‬ليوسف‭ ‬العزيز‭ ‬،‭ ‬وكيف‭ ‬شرحوا‭ ‬له‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يساعدهم‭ ‬في‭ ‬إطلاق‭ ‬سراح‭ ‬بنيامين‭ ‬،‭ ‬وهنا‭ ‬حاولوا‭ ‬بشدة‭ ‬وبذلوا‭ ‬كل‭ ‬جهد‭ ‬ممكن‭ ‬عكس‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬تفريطهم‭ ‬في‭ ‬يوسف‭ ‬حين‭ ‬ألقوه‭ ‬في‭ ‬غيابة‭ ‬الجب‭. ‬

أما‭ ‬هنا‭ ‬فالمشهد‭ ‬مختلف‭ ‬جداً،‭ ‬فهم‭ ‬قد‭ ‬فعلوا‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يمكنهم‭ ‬لاستنقاذه‭ ‬حتى‭ ‬وصل‭ ‬الأمر‭ ‬أن‭ ‬يعرضوا‭ ‬على‭ ‬العزيز‭ ‬أن‭ ‬يأخذ‭ ‬واحداً‭ ‬منهم‭ ‬ويطلق‭ ‬سراح‭ ‬بنيامين‭ ‬بالذات‭!.. ‬ارايتم‭ ‬كيف‭ ‬يقلب‭ ‬الله‭ ‬عز‭ ‬وجل‭ ‬الأمور؟‭ ‬حتى‭ ‬صار‭ ‬المفرطون‭ ‬في‭ ‬يوسف‭ ‬يكادون‭ ‬يبذلون‭ ‬أنفسهم‭ ‬لإطلاق‭ ‬أخيهم‭ ‬الصغير‭! ‬وهذي‭ ‬من‭ ‬عجائب‭ ‬القصة‭.‬

الحاصل‭ ‬أنهم‭ ‬بذلوا‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬حتى‭ ‬يئسوا‭ ‬وعبر‭ ‬القرآن‭ ‬بلفظة‭ ‬استيأسوا‭ ‬،‭ ‬وكأنها‭ ‬تشرح‭ ‬لك‭ ‬حالهم‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬ييأسوا‭ ‬،‭ ‬بل‭ ‬استيأسوا‭ ‬فقد‭ ‬فعلوا‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬،‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬أن‭ ‬يبذلوا‭ ‬نفوسهم‭ ‬لتحرير‭ ‬أخيهم‭ ‬،‭ ‬حتى‭ ‬بلغ‭ ‬بهم‭ ‬اليأس‭ ‬مبلغه‭.. ‬وهنا‭ ‬انقطعت‭ ‬الأصوات‭ ‬وسكنت‭ ‬اللحظة‭ ‬وهم‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬العزيز‭ ‬أثناء‭ ‬المحاولات‭ ‬،‭ ‬وعددهم‭ ‬عشرة‭ ‬عندها‭ ‬جاءت‭ ‬اللحظة‭ .. ‬لحظة‭ ‬الحقيقة‭ ‬بعد‭ ‬تيقنهم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أخاهم‭ ‬لن‭ ‬يعود‭ ‬معهم‭.‬

حينها‭ ‬عبر‭ ‬القرآن‭ ‬بالوصف‭ ‬البالغ‭ ‬الفصاحة‭ ‬يصف‭ ‬مشهد‭ ‬خروجهم‭ ‬من‭ ‬مجلس‭ ‬العزيز‭ ‬يكسوهم‭ ‬اليأس‭ ‬والإحباط‭ ‬،‭ ‬بقوله‭: ( ‬خلصوا‭ ‬نجياً‭ ).‬

وكأن‭ ‬المكان‭ ‬كان‭ ‬خليطا‭ ‬من‭ ‬العمال‭ ‬والحجاب‭ ‬وأصحاب‭ ‬الحاجات‭ ‬والعزيز‭ ‬يوسف‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬،‭ ‬وإخوته‭ ‬العشرة‭.. ‬ثم‭ ‬تراهم‭ ‬يخلصون‭ ‬حسب‭ ‬الوصف‭ ‬القرآني،‭ ‬أي‭ ‬يخرجون‭ ‬لينفردوا‭ ‬لوحدهم،‭ ‬وأتخيلهم‭ ‬ينسحبون‭ ‬ويخرجون‭ ‬من‭ ‬المجلس‭ ‬يتهامس‭ ‬بعضهم‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬،‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬انفردوا‭ ‬عن‭ ‬الناس‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬معهم‭ ‬غيرهم‭ ‬وأثناء‭ ‬المناجاة‭ ‬والصوت‭ ‬الخفي‭ ‬المليء‭ ‬بالإحباط‭  ‬،‭ ‬تأتي‭ ‬صيحة‭ ‬الألم‭  ‬من‭ ‬الأخ‭ ‬الكبير،‭ ‬حين‭ ‬قال‭ : ‬

﴿‭ ‬قَالَ‭ ‬كَبِيرُهُمْ‭ ‬أَلَمْ‭ ‬تَعْلَمُواْ‭ ‬أَنَّ‭ ‬أَبَاكُمْ‭ ‬قَدْ‭ ‬أَخَذَ‭ ‬عَلَيْكُم‭ ‬مَّوْثِقًا‭ ‬مِّنَ‭ ‬اللَّهِ‭ ‬وَمِن‭ ‬قَبْلُ‭ ‬مَا‭ ‬فَرَّطتُمْ‭ ‬فِي‭ ‬يُوسُفَ‭ ‬فَلَنْ‭ ‬أَبْرَحَ‭ ‬الأَرْضَ‭ ‬حَتَّىَ‭ ‬يَأْذَنَ‭ ‬لِي‭ ‬أَبِي‭ ‬أَوْ‭ ‬يَحْكُمَ‭ ‬اللَّهُ‭ ‬لِي‭ ‬وَهُوَ‭ ‬خَيْرُ‭ ‬الْحَاكِمِينَ﴾‭ [‬يوسف‭:‬‮٨‬‭]‬

إنني‭ ‬أتخيل‭ ‬المشهد‭ ‬،‭ ‬بعد‭ ‬الحديث‭ ‬الهامس‭ ‬بينهم‭ ‬والتناجي‭ ‬الذي‭  ‬كان‭ ‬يدور‭ ‬حول‭ ‬كيف‭ ‬يتداركون‭ ‬الأمر‭ ‬ويخرجوا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المصيبة‭ ‬العظيمة‭ ‬التي‭ ‬حلت‭ ‬بهم،‭  ‬حينها‭ ‬تأتي‭ ‬لحظة‭ ‬الحقيقة‭ ‬المؤلمة‭ ‬التي‭ ‬عبر‭ ‬عنها‭ ‬الأخ‭ ‬الأكبر‭ ‬حيث‭ ‬رفع‭ ‬صوته‭ ‬وخرج‭ ‬من‭ ‬لحظة‭ ‬التهامس‭ ‬إلى‭ ‬لحظة‭ ‬مواجهة‭ ‬الحقيقة‭ ‬فقال‭ ‬مذكراً؛ ألم‭ ‬تعلموا‭ ‬أن‭ ‬أباكم‭ ‬قد‭ ‬أخذ‭ ‬عليكم‭ ‬موثقاً‭ ‬من‭ ‬الله؟‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسهم‭ ‬ذكرهم‭ ‬بتفريطهم‭ ‬في‭ ‬يوسف‭ ‬عليه‭ ‬السلام،‭ ‬وقد‭ ‬قال‭ ‬بعض‭ ‬المفسرين‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬الأخ‭ ‬الأكبر‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬قال‭ ‬لا‭ ‬تقتلوا‭ ‬يوسف‭ ‬وألقوه‭ ‬في‭ ‬غيابة‭ ‬الجب‭ ‬،‭ ‬وهذا‭ ‬معقول‭ ‬جدا‭ ‬لأنه‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬كان‭ ‬مستعداً‭ ‬لتحمل‭ ‬نتيجة‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬فأعلن‭ ‬تحمله‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬وأنه‭ ‬لن‭ ‬يترك‭ ‬مصر‭ ‬ولا‭ ‬يعود‭ ‬حتى‭ ‬يأذن‭ ‬له‭ ‬أبوه‭ ‬أو‭ ‬يحكم‭ ‬الله‭ ‬له‭.‬

إنها‭ ‬لحظة‭ ‬المواجهة‭ ‬للحقائق‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬الأخ‭ ‬الأكبر‭ ‬،‭ ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬حملهم‭ ‬رسائل‭ ‬لوالدهم‭ ‬في‭ ‬الآيات‭ ‬التالية‭.‬

والمقصود‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الجملة‭ ‬المكونة‭ ‬من‭ ‬خمس‭ ‬كلمات‭ ( ‬فلما‭ ‬استيأسوا‭ ‬منه‭ ‬خلصوا‭ ‬نجياً‭) ‬شرحت‭ ‬موقفاً‭ ‬كاملا‭ ‬عصيبا‭ ‬،‭ ‬وحملت‭ ‬ألفاظها‭ ‬وعباراتها‭ ‬الموقف‭ ‬برمته‭ ‬وجعلت‭ ‬القاريء‭ ‬يقرأها‭ ‬وكأنه‭ ‬معهم‭ ‬،‭ ‬مدرك‭ ‬لموقف‭ ‬الإخوة‭ ‬ويأسهم‭ ‬وإحباطهم‭ ‬ثم‭ ‬انسحابهم‭ ‬وتناجيهم‭ ‬يفكرون‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬المصيبة‭ ‬التي‭ ‬حلت‭ ‬بهم‭ ‬،‭ ‬ولذا‭ ‬لا‭ ‬غرابة‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬الأعرابي‭ : ‬أشهد‭ ‬أن‭ ‬مخلوقاً‭ ‬لا‭ ‬يقدر‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الكلام‭.‬

ملحظ‭ ‬بلاغي‭ ‬،‭ ‬الإيجاز‭ ‬البلاغي‭ ‬المعجز‭ ‬نراه‭ ‬في‭ ‬التفاصيل‭ ‬ذات‭ ‬الطبيعة‭ ‬البشرية‭ ‬،‭ ‬والمتعلقة‭ ‬بالأحداث‭ ‬،‭ ‬هنا‭ ‬نجد‭ ‬القرآن‭ ‬يوجز‭ ‬العبارة‭ ‬بأبلغ‭ ‬لفظ‭ ‬،‭ ‬بينما‭ ‬في‭ ‬مقام‭ ‬التعليم‭ ‬والتذكير‭ ‬،‭ ‬تجد‭ ‬القرآن‭ ‬يطنب‭ ‬وتفيض‭ ‬الألفاظ‭ ‬والأساليب‭ ‬لتقرير‭ ‬الحقائق‭ ‬والحكم‭ ‬الإلهية‭ .. ‬كتقرير‭ ‬يوسف‭ ‬لصاحبي‭ ‬السجن‭ ‬عن‭ ‬الله‭ ‬رب‭ ‬العالمين‭ ‬،‭ ‬والأسماء‭ ‬التي‭ ‬يعبدونها‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الله‭ . ‬لأن‭ ‬المقصود‭ ‬هو‭ ‬تعبيد‭ ‬النفوس‭ ‬لله‭ ‬عز‭ ‬وجل‭.‬

وكذا‭ ‬نجد‭ ‬الإطناب‭ ‬والتفصيل‭ ‬في‭ ‬مقام‭ ‬تعداد‭ ‬نعم‭ ‬الله‭ ‬عز‭ ‬وجل‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬يوسف‭ ‬،‭ ‬

المثال‭ ‬الثاني‭ : ‬﴿يلتقطه‭ ‬بعض‭ ‬السيارة

لم‭ ‬يرد‭ ‬اللفظ‭ ‬قافلة‭ ‬أو‭ ‬عير‭ ‬هنا‭ ‬،‭ ‬بل‭ ‬ورد‭ ‬اللفظ‭ ‬ورد‭ ‬مرتين‭ ‬للدلالة‭ ‬على‭ ‬مجموعة‭ ‬غير‭ ‬القوافل‭ ‬المعتادة‭ .. ‬لأن‭ ‬القوافل‭ ‬تسير‭ ‬بالأشهر‭ ‬،‭ ‬وكذلك‭ ‬العير‭ ‬تحركاتها‭ ‬محسوبة‭ ‬لأغراض‭ ‬محددة‭ ‬،‭  ‬بينما‭ ‬يبدو‭ ‬من‭ ‬اللفظ‭ ‬أن‭ ‬السيارة‭ ‬مجموعات‭ ‬صغيرة‭ ‬تتحرك‭ ‬بشكل‭ ‬يومي‭ ‬وتمر‭ ‬على‭ ‬مواضع‭ ‬الماء‭ ‬بشكل‭ ‬مستمر‭ ‬وفترات‭ ‬متقاربة‭ ‬

ولفظ‭ ‬السيارة‭ ‬،‭ ‬جاء‭ ‬لفظ‭ ‬السيارة‭ ‬للدلالة‭ ‬على‭ ‬مجموعة‭ ‬تمتهن‭ ‬السير‭ ‬بالقوافل‭ ‬أو‭ ‬النقل‭ ‬،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أنها‭ ‬كثيرة‭ ‬التردد‭ ‬والتنقل‭ ‬والمرور‭ ‬على‭ ‬الآبار‭ ‬والجباب،‭ ‬وكأن‭ ‬إخوة‭ ‬يوسف‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يريدوا‭ ‬قتله‭ ‬اقترحوا‭ ‬وضعه‭ ‬في‭ ‬الجب‭ ‬وهم‭ ‬مطمئنون‭ ‬أنه‭ ‬سيأتي‭ ‬قطعا‭ ‬أحد‭ ‬مجموعات‭ ‬السيارة‭ ‬التي‭ ‬تلتقطه‭ ‬من‭ ‬البئر‭ ‬،‭ ‬يلتقطه‭ ‬بعض‭ ‬السيارة‭ ‬،‭ ‬في‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬القائل‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬حريصا‭ ‬على‭ ‬بقاء‭ ‬يوسف‭ ‬حياًَ،‭ ‬

المثال‭ ‬الثاني‭: ‬﴿وَأَسَرُّوهُ‭ ‬بِضَاعَةً

﴿‭ ‬وَجَاءَتْ‭ ‬سَيَّارَةٌ‭ ‬فَأَرْسَلُواْ‭ ‬وَارِدَهُمْ‭ ‬فَأَدْلَى‭ ‬دَلْوَهُ‭ ‬قَالَ‭ ‬يَا‭ ‬بُشْرَى‭ ‬هَذَا‭ ‬غُلامٌ‭ ‬وَأَسَرُّوهُ‭ ‬بِضَاعَةً﴾‭ [‬يوسف‭: ‬‮١٩‬‭]‬

قال‭ ‬الزجاج‭ : ‬الوارد‭ ‬الذي‭ ‬يرد‭ ‬الماء‭ ‬ليسقي‭ ‬للقوم‭.‬

‭(‬فَأَدْلَى‭ ‬دَلْوَهُ‭) : ‬يقال‭: ‬أَدْلَيْتَ‭ ‬الدلْوَ‭ ‬إذَا‭ ‬أرْسلتَها‭ ‬لتملأها،‭ ‬وَدَلَوْتَها‭ ‬إذَا‭ ‬أخرجْتَها‭.‬

هذا‭ ‬مشهد‭ ‬بديع،‭ ‬مليء‭ ‬بالحركة‭ ‬بطيئة‭ ‬الرتم،‭ ‬والجمال‭ ‬والإيجاز‭ ‬الإعجازي‭ ‬الذي‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬سورة‭ ‬يوسف،‭ ‬ففي‭ ‬كلمات‭ ‬قليلة‭  ‬مشهد‭ ‬كامل‭ ‬يشرح‭ ‬لحظات‭ ‬القافلة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تتوقف‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الماء،‭ ‬هذه‭ ‬القافلة‭ ‬وصفت‭ ‬في‭ ‬مكانين‭ ‬بأنها‭: ( ‬سيارة‭ ) ‬قالها‭  ‬بعض‭ ‬إخوة‭ ‬يوسف‭ (‬يلتقطه‭ ‬بعض‭ ‬السيارة‭)‬،‭ ‬وهنا‭ ‬يأتي‭ ‬مشهد‭ ‬السيارة‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭!‬

‭ ‬انظر‭ ‬إلى‭ ‬الأفق‭ ‬البعيد‭ ‬وراقب‭ ‬مجيء‭ ‬القافلة‭ ‬التي‭ ‬تتوقف‭ ‬لحاجتها‭ ‬للماء،‭ ‬وأهل‭ ‬السفر‭ ‬خبراء‭ ‬بمعرفة‭ ‬مواطن‭ ‬المياه‭ ‬ومواقع‭ ‬الآبار،‭ ‬وعندهم‭ ‬المعرفة‭ ‬والأدوات‭ ‬اللازمة‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬الما،‭ ‬يشرح‭ ‬البغوي‭ ‬المشهد‭ ‬هنا‭ ‬بأن‭ ‬السيارة‭  ‬كانت‭ ‬رفقة‭ ‬من‭ ‬مدين‭ ‬تريد‭ ‬مصر‭ ‬،‭ ‬فأخطؤوا‭ ‬الطريق‭ ‬فنزلوا‭ ‬قريباً‭ ‬من‭ ‬الجب،‭ ‬وكان‭ ‬الجب‭ ‬في‭  ‬قفر‭ ‬بعيد‭ ‬،‭ ‬فلما‭ ‬نزلوا‭ ‬أرسلوا‭ ‬رجلاً‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬مدين‭ ‬لطلب‭ ‬الماء،‭ ‬فذلك‭ ‬قوله‭ ‬فأرسلوا‭ ‬واردهم،‭  ‬والوارد‭ ‬الذي‭ ‬يتقدم‭ ‬الرفقة‭ ‬إلى‭ ‬الماء‭ ‬فيهيء‭ ‬الأرشية‭ ‬والدلاء،‭ ‬فأدلى‭ ‬دلوه‭ ‬أي‭ ‬أرسلها‭ ‬في‭ ‬البئر‭ ‬،‭ ‬فتعلق‭ ‬يوسف‭ ‬بالحبل‭ ‬فلما‭ ‬خرج‭ ‬فإذا‭ ‬بغلام‭ ‬أحسن‭ ‬ما‭ ‬يكون‭.‬

هذا‭ ‬الشرح‭ ‬للمشهد،‭ ‬أوجزته‭ ‬الآية‭ ‬الكريمة‭ ‬في‭ ‬ألفاظ‭ ‬بليغة‭ ‬أوصلت‭ ‬المعنى‭ ‬بأتم‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬وبدون‭ ‬الحاجة‭ ‬لذكر‭ ‬التفاصيل‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬حكم‭ ‬المعلوم‭ ‬أصلا‭. ‬فعندما‭ ‬يأتي‭ ‬اللفظ‭ ‬القرآن‭ ‬بكلمة‭ ( ‬واردهم‭ ) ‬فالوارد‭ ‬والورود‭ ‬في‭ ‬تصريفاته‭ ‬العربية‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬يذهب‭ ‬ليستقي‭ ‬الماء،فلا‭ ‬حاجة‭ ‬لشرح‭ ‬مستفيض‭ ‬وأنت‭ ‬تعلم‭ ‬دلالة‭ ‬اللفظ‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬المعنى‭.‬

ثم‭ ‬انظر‭ ‬إلى‭ ‬اقتصار‭ ‬العبارة‭ ‬على‭ ‬جملة‭ ‬فأدلى‭ ‬دلوه‭. ‬أنت‭ ‬تعلم‭ ‬مسبقاً‭ ‬أن‭ ‬يوسف‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬مغيب‭ ‬في‭ ‬الجب،‭ ‬وتتوقع‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭ ‬بنفس‭ ‬متلهفة‭ ‬ماسيحدث؟‭ ‬فيأتيك‭ ‬القرآن‭ ‬بما‭ ‬بالوصف‭ ‬البديع،‭ ‬الرجل‭ ‬الوارد‭ ‬على‭ ‬الماء‭ ‬يتفاجأ‭ ‬ويرفع‭ ‬صوته،‭ ‬يا‭ ‬بشرى‭! ‬

يصرخ‭ ‬بالبشرى‭ ‬لما‭ ‬شاهده‭ ‬عندما‭ ‬سحب‭ ‬الدلو،‭ ‬يوسف‭ ‬متعلق‭ ‬به‭ ‬يصعد‭ ‬والرجل‭ ‬يسحب‭ ‬حتى‭ ‬ظهر‭ ‬وجه‭ ‬يوسف‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬فقال‭ ‬الرجل‭ ‬يا‭ ‬بشرى‭ ‬هذا‭ ‬غلام‭!‬‭  ‬ومن‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬الرجل‭ ‬هنا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لوحده،‭ ‬بل‭ ‬معه‭ ‬شخص‭ ‬آخر،‭ ‬ولذا‭ ‬قال‭ ‬بعض‭ ‬أهل‭ ‬التفسير‭ ‬إن‭ ‬الشخص‭ ‬الآخر‭ ‬اسمه‭ ‬بشرى‭ ‬وأن‭ ‬النداء‭ ‬له‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬معنى‭ ‬البشارة‭.‬

الشاهد‭ ‬أن‭ ‬الآيةتوقفت‭ ‬عن‭ ‬التعبير‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬العبارة‭: ‬يابشرى‭ ‬هذا‭ ‬غلام‭! ‬

إن‭ ‬توقف‭ ‬الآية‭ ‬عن‭ ‬الشرح‭ ‬أكثر،‭ ‬مؤذن‭ ‬بمعرفة‭ ‬المشهد‭ ‬التالي،‭ ‬فالرجل‭(‬يقول‭ ‬البغوي‭ ‬إن‭ ‬اسمه‭ ‬مالك‭ ‬بن‭ ‬ذعر‭) ‬من‭ ‬الواضح‭ ‬أنه‭ ‬يعتبر‭ ‬نفسه‭ ‬قد‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬المال‭ ‬ولذا‭ ‬رفع‭ ‬صوته‭ ‬بالبشرى،‭ ‬وفي‭ ‬قراءة‭ ( ‬يا‭ ‬بشراي‭ ) ‬كأنه‭ ‬يبشر‭ ‬نفسه‭ ‬بما‭ ‬حصل‭ ‬عليه،‭ ‬لأن‭ ‬عبارة‭: ‬هذا‭ ‬غلام‭ ‬مؤذنة‭ ‬بما‭ ‬سيحدث‭ ‬بعدها،‭ ‬ولذا‭ ‬جاء‭ ‬التعبير‭ ‬بالعبارة‭ ‬التي‭ ‬تجعلك‭ ‬تكتفي‭ ‬بما‭ ‬لديك،‭ ‬ولا‭ ‬تطلب‭ ‬الاستفصال‭ ‬جاءت‭ ‬اللحظة‭ ‬المؤلمة‭: ‬وأسروه‭ ‬بضاعة‭!‬

‭ ‬نبي‭ ‬الله‭ ‬الكريم‭ ‬ابن‭ ‬الكريم‭ ‬ابن‭ ‬الكريم‭ ‬كما‭ ‬وصفه‭ ‬النبي‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬يصبح‭ ‬بضاعة‭ ‬يباع‭ ‬بثمن‭ ‬بخس‭ ‬وهم‭ ‬فيه‭ ‬زاهدون‭!‬

لقد‭ ‬فهمنا‭ ‬الآن‭ ‬سبب‭ ‬عبارة‭  ‬الرجل‭ ‬هذا‭ ‬غلام‭! ‬لأن‭ ‬المسألة‭ ‬ستصبح‭ ‬تجارية،‭ ‬غلام‭ ‬يخرج‭ ‬متعلقاً‭ ‬بالدلو،‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬له‭ ‬وليس‭ ‬معه‭ ‬سوى‭ ‬الله‭ ‬عز‭ ‬وجل،‭ ‬سيصبح‭ ‬بضاعة،يخفيها‭ ‬الوارد‭ ‬ورفيقه‭ ‬عن‭ ‬بقية‭ ‬القافلة‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يشاركوهم‭ ‬في‭ ‬ثمنه،‭ ‬ولكن‭ ‬لأنه‭ ‬غلام‭ ‬فيما‭ ‬يبدو‭ ‬صغير‭ ‬السن‭ ‬والبنية‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬منه‭ ‬ذلك‭ ‬المكسب‭ ‬الكبير،‭ ‬ولذا‭ ‬سنرى‭ ‬في‭ ‬الآيات‭ ‬التالية،‭ ‬أنهم‭ ‬باعوه‭ ‬بثمن‭ ‬بخس‭ ‬وكانوا‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬الزاهدين‭.‬

المثال‭ ‬الثالث‭: ‬﴿وَلَمَّا‭ ‬فَصَلَتِ‭ ‬الْعِيرُ

﴿وَلَمَّا‭ ‬فَصَلَتِ‭ ‬ٱلعِيرُ‭ ‬قَالَ‭ ‬أَبُوهُم‭ ‬إِنِّي‭ ‬لَأَجِدُ‭ ‬رِيحَ‭ ‬يُوسُفَ‭ ‬لَولَا‭ ‬أَن‭ ‬تُفَنِّدُونِ﴾‭ [‬يوسف‭: ‬‮٩٤‬‭]‬

عبارة‭ ‬فصلت‭ ‬العير‭ ‬عبارة‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬الإيجاز‭ ‬والإعجاز،‭ ‬فهي‭ ‬تشرح‭ ‬لك‭ ‬حكاية‭ ‬كاملة‭ ‬من‭ ‬الحركة‭ ‬حين‭ ‬تحركت‭ ‬القافلة‭ ‬منطلقة‭ ‬من‭ ‬مصر‭ ‬نحو‭ ‬الشام،‭ ‬فكأن‭ ‬عبارة‭ ( ‬فصلت‭ ) ‬تعطيك‭ ‬مؤشراً‭ ‬للانتقال‭ ‬بين‭ ‬الحدود‭ ‬الجغرافية‭ ‬لمصر‭ ‬والشام،‭ ‬وجاءت‭ ‬هكذا‭ ‬بدون‭ ‬أي‭ ‬معمول‭ ‬للدلالة‭ ‬على‭ ‬عموم‭ ‬الانتقال‭ ‬،‭ ‬فهو‭ ‬انتقال‭ ‬وانفصال‭ ‬بين‭ ‬منطقة‭ ‬ومنطقة‭ ‬،‭ ‬بدون‭ ‬أن‭ ‬يحدد‭ ‬السياق‭ ‬القرآني‭ ‬أين‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬المنطقة،‭ ‬بينما‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬الطبري‭ ‬أهمية‭ ‬المكان‭ ‬بقدر‭ ‬أهمية‭ ‬الأشخاص‭ ‬،‭ ‬فيقول‭ : ‬«ولما‭ ‬فصلت‭ ‬عير‭ ‬بني‭ ‬يعقوب‭ ‬من‭ ‬عند‭ ‬يوسف‭ ‬متوجهة‭ ‬إلى‭ ‬يعقوب،‭ ‬قال‭ ‬أبوهم‭ ‬يعقوب‭ ‬إني‭ ‬لأجد‭ ‬ريح‭ ‬يوسف»‭.‬

فاهتم‭ ‬الطبري‭ ‬بمحوري‭ ‬القصة‭ ‬هنا‭ ‬وهما‭ ‬يوسف‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬ويعقوب‭ ‬في‭ ‬الشام‭ ‬،‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬مكان‭ ‬انفصال‭ ‬العير‭ ‬المكاني‭.‬

ولذا‭ ‬قال‭ ‬ابن‭ ‬فارس‭ ‬في‭ ‬مادة‭ (‬فصل‭) : ‬الفاء‭ ‬والصاد‭ ‬واللام‭ ‬كلمة‭ ‬صحيحة‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬تمييز‭ ‬الشيء‭ ‬من‭ ‬الشيء‭ ‬وإبانته‭ ‬عنه‭. ( ‬معجم‭ ‬مقاييس‭ ‬اللغة‭ )‬

وفي‭ ‬الآية‭ ‬ملمح‭ ‬بلاغي‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬قوله‭ : ‬﴿‭ ‬لَولَا‭ ‬أَن‭ ‬تُفَنِّدُونِ‭.‬

معظم‭ ‬أقوال‭ ‬المفسرين،‭ ‬تدور‭ ‬حول‭ ‬معنى‭ ‬رئيس‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬يعقوب‭ ‬يخبر‭ ‬من‭ ‬بقي‭ ‬عنده‭ ‬من‭ ‬ذريته‭ ‬وأهله‭ ‬أنه‭ ‬يجد‭ ‬ريح‭ ‬يوسف‭ ‬وأنه‭ ‬متأكد‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬لولا‭ ‬خشيته‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يسفهوا‭ ‬رأيه‭ ‬وينكروا‭ ‬عليه‭ . ‬

قال‭ ‬أبو‭ ‬حيان‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬حكى‭ ‬الأقوال‭ ‬في‭ ‬معنى‭ ‬تفندون‭ ‬وهي‭: ‬تسفهون‭ ‬،‭ ‬تجهلون‭ ‬،‭ ‬تضعفون،‭ ‬تكذبون،‭ ‬تهرمون،‭ ‬تقولون‭ ‬ذهب‭ ‬عقلك‭ ‬وخرفت‭. ‬تقبحون،‭ ‬تعجزون‭ ‬،‭ ‬تضللون،‭ ‬تخطئون‭.‬

قال‭ : ‬وهذه‭ ‬كلها‭ ‬متقاربة‭ ‬في‭ ‬المعنى،‭ ‬وهي‭ ‬راجعة‭ ‬لاعتقاد‭ ‬فساد‭ ‬رأي‭ ‬المُفَنِّد‭ ‬إما‭ ‬لجهله،‭ ‬أو‭ ‬لهوى‭ ‬غالب‭ ‬عليه،‭ ‬أو‭ ‬لكذبه،‭ ‬أو‭ ‬لضعفه‭ ‬وعجزه‭ ‬لذهاب‭ ‬عقله‭ ‬بِهَرَمِهِ‭. ‬

ثم‭ ‬نقل‭ ‬عن‭ ‬الزمخشري‭ ‬قوله‭ : ‬قال‭ ‬الزمخشري‭: ‬المعنى‭ ‬لولا‭ ‬تفنيدكم‭ ‬إياي‭ ‬لصدقتموني‭.‬

والحاصل‭ ‬أن‭ ‬كلام‭ ‬أغلب‭ ‬المفسرين‭ ‬هنا‭ ‬يدور‭ ‬على‭ ‬اعتبار‭ ‬لولا‭ ‬حرف‭ ‬امتناع‭ ‬لوجود‭ ‬وأن‭ ‬جوابها‭ ‬محذوف،‭ ‬أي‭ ‬لولا‭ ‬تفنديكم‭ ‬إياي‭ ‬لصدقتموني‭. ‬

وربما‭ ‬لو‭ ‬اعتبرنا‭ ‬لولا‭ ‬بمعنى‭ ‬التحضيض‭ ‬والعرض‭ ‬لكان‭ ‬هناك‭ ‬معنى‭ ‬آخر‭ ‬محتمل،‭ ‬وهو‭ ‬أنه‭ ‬يخبرهم‭ ‬أن‭ ‬يجد‭ ‬ريح‭ ‬يوسف،‭ ‬وأنه‭ ‬متأكد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يوسف‭ ‬حي‭ ‬ولم‭ ‬يمت،‭ ‬ويطلب‭ ‬منهم‭ ‬أن‭ ‬يردوا‭ ‬كلامه‭ ‬ويبطلوه‭ ‬إن‭ ‬كانوا‭ ‬قادرين‭.. ‬

ولذا‭ ‬جاء‭ ‬جوابهم‭ ‬في‭ ‬الآية‭ ‬التالية‭ ‬لعجزهم‭ ‬عن‭ ‬إبطال‭ ‬قوله‭ ‬لعدم‭ ‬قدرتهم‭ ‬أصلا‭ ‬على‭ ‬الإبطال‭ ‬كون‭ ‬ما‭ ‬وجده‭ ‬يدخل‭ ‬ضمن‭ ‬سياق‭ ‬التجربة‭ ‬الشخصية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يمكنهم‭ ‬أصلاً‭ ‬فهمها‭ ‬ولا‭ ‬المشاركة‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬أن‭ ‬يعقوب‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬يشم‭ ‬رائحة‭ ‬يوسف،‭ ‬ويخبرهم‭ ‬بذلك،‭ ‬وهم‭ ‬قطعاً‭ ‬لا‭ ‬يجدون‭ ‬تلك‭ ‬الرائحة،‭ ‬فليس‭ ‬لديهم‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬إبطال‭ ‬هذا‭ ‬الأمر،‭ ‬ولذا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬قدرتهم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يردوا‭ ‬عليه‭ ‬بأنه‭ ‬يعيد‭ ‬ويكرر‭ ‬خطأه‭ ‬فيما‭ ‬يخص‭ ‬يوسف‭ ‬بعد‭ ‬تجديد‭ ‬الأحزان‭ ‬بسبب‭ ‬بنيامين،‭ ‬فقالوا‭ ‬له‭ : ‬تالله‭ ‬إنك‭ ‬لفي‭ ‬ضلالك‭ ‬القديم‭.‬

ولم‭ ‬أجد‭ ‬من‭ ‬أشار‭ ‬لهذا‭ ‬المعنى‭ ‬من‭ ‬المفسرين‭ ‬السابقين،‭ ‬فإن‭ ‬كان‭ ‬صواباً‭ ‬فمن‭ ‬الله‭ ‬،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬خطئاً‭ ‬فمن‭ ‬نفسي‭ ‬ومن‭ ‬الشيطان‭.‬

المثال‭ ‬الرابع‭ : ‬﴿‭ ‬يَخْلُ‭ ‬لَكُمْ‭ ‬وَجْهُ‭ ‬أَبِيكُمْ‭.‬

هذه‭ ‬الجملة‭ ‬من‭ ‬أمثلة‭ ‬البلاغة‭ ‬العالية‭ ‬والمعاني‭ ‬المبتكرة‭ ‬التي‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬لأنك‭ ‬إذا‭ ‬نظرت‭ ‬إلى‭ ‬ظاهر‭ ‬اللفظ‭ ‬وهو‭ ‬خلو‭ ‬الوجه،‭ ‬يرد‭ ‬عليك‭  ‬سؤال‭: ‬كيف‭ ‬يخلو‭ ‬الوجه‭ ‬ونحن‭ ‬نعلم‭ ‬أن‭ ‬شيئاً‭ ‬لا‭ ‬يظهر‭ ‬على‭ ‬الوجه؟‭ ‬وإنما‭ ‬المحبة‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬القلب؟‭  ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬سبب‭ ‬حسدهم‭ ‬ليوسف‭   ‬وأخيه‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬أن‭ ‬قالوا‭: ‬ليوسف‭ ‬وأخوه‭ ‬أحب‭ ‬إلى‭ ‬أبينا‭ ‬منا‭! ‬والمحبة‭ ‬مكانها‭ ‬القلب؟‭ ‬فلم‭ ‬قيل‭ ‬إذن‭ ‬اقتلوا‭ ‬يوسف‭ ‬أو‭ ‬اطرحوه‭ ‬أرضاً‭ ‬يخلُ‭ ‬لكم‭ ‬وجه‭ ‬أبيكم؟

يمكن‭ ‬أن‭ ‬نتصور‭ ‬الجواب‭ ‬بأن‭ ‬يقال‭: ‬إن‭ ‬المحبة‭ ‬التي‭ ‬محلها‭ ‬القلب‭ ‬تظهر‭ ‬بشاشة‭ ‬وفرحاً‭ ‬على‭ ‬وجهه‭ ‬عندما‭ ‬يرى‭ ‬المحب‭ ‬محبوبه‭ ‬،‭ ‬ولعل‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يلاحظه‭ ‬إخوة‭ ‬يوسف‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬أبوهم‭ ‬يرى‭ ‬يوسف‭ ‬وبنيامين‭ ‬فيظهر‭ ‬على‭ ‬وجهه‭ ‬السرور‭ ‬والسعادة‭! ‬وكانت‭ ‬خطة‭ ‬إخوة‭ ‬يوسف‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬قتل‭ ‬يوسف‭ ‬أو‭ ‬طرحه‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يعود‭ ‬ليعقوب‭ ‬فرصة‭ ‬أخرى‭ ‬لرؤية‭ ‬يوسف‭ ‬،‭ ‬ويكون‭ ‬وجهه‭ ‬خالياً‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬والسرور‭ ‬الذي‭ ‬يظهر‭ ‬عندما‭ ‬يراه‭ ‬وأخاه،‭ ‬وكل‭ ‬ذلك‭ ‬سببه‭ ‬الحسد‭ ‬والعياذ‭ ‬بالله‭.‬

وقد‭ ‬نجح‭ ‬الإخوة‭ ‬في‭ ‬الجناية‭ ‬على‭ ‬أبيهم‭ ‬وخلا‭ ‬وجهه‭ ‬من‭ ‬البشاشة‭ ‬والسرور،‭ ‬وأدخلوا‭ ‬أباهم‭ ‬في‭ ‬حزن‭ ‬مقيم‭  ‬سنين‭ ‬طوال،‭  ‬وتكررت‭ ‬المأساة‭ ‬حتى‭ ‬ابيضت‭ ‬عيناه‭ ‬من‭ ‬الحزن‭ ‬فهو‭ ‬كظيم‭ ‬والله‭ ‬المستعان‭.‬

الخاتمة‭:‬

كانت‭ ‬هذه‭ ‬الورقة‭ ‬محاولة‭ ‬لتلمس‭ ‬بعض‭ ‬أوجه‭ ‬الإعجاز‭ ‬في‭ ‬الإيجاز‭ ‬في‭ ‬سورة‭ ‬يوسف‭ ‬،‭ ‬اخترت‭ ‬أربعة‭ ‬أمثلة‭ ‬تبين‭ ‬المقصود،‭ ‬ركزت‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬الاستفصال‭ ‬والشرح‭ ‬للصورة‭ ‬المصاحبة‭ ‬للألفاظ‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬محاولة‭ ‬فهم‭ ‬ما‭ ‬يدور‭ ‬من‭ ‬أحداث‭ ‬في‭ ‬القصة‭ ‬المذكورة‭ ‬في‭ ‬السورة،‭ ‬بعد‭ ‬النظر‭ ‬فيما‭ ‬تيسر‭ ‬من‭ ‬أقوال‭ ‬المفسرين‭.‬

ولم‭ ‬يكن‭ ‬اختيار‭ ‬الآيات‭ ‬سوى‭ ‬لضرب‭ ‬المثال،‭ ‬عن‭ ‬الفكرة،‭ ‬وإلا‭ ‬فالسورة‭ ‬مليئة‭ ‬بالإعجازات‭ ‬البلاغية‭ ‬والبيانية‭ ‬التي‭ ‬تكلم‭ ‬عن‭ ‬كثير‭ ‬منها‭ ‬أهل‭ ‬العلم‭ ‬واللغة‭ ‬والأدب،‭ ‬وأرجو‭ ‬أن‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬وفقت‭ ‬فيما‭ ‬قصدت‭ ‬والله‭ ‬أعلم‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*