بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد،
لما تحدى القرآن العرب بأن يأتوا بمثله، أقر له فصحاؤهم بأنه معجز ولا يمكن أن يأتوا بما يدانيه في الفصاحة والبلاغة وأنه لا يمكن أن يكون من كلام البشر.
ولما انتشر الإسلام في أرجاء الأرض تغنى المسلمون بإعجازه فخراً وتيهاً على بقية الأمم وتكلم أهل العلم والأدب عن وجوه بلاغته وفصاحته وعن إعجازه، واقترب بعضهم كالجرجاني في أن يلمس أطراف هذا الإعجاز بأنامله بعدما جال في فسيح ( النظم القرآني ) متتبعاً ( الدلائل ) التي جعلته يكتب في تمهل وأناة ( دلائل الإعجاز )
وهذا عبدالله دراز يخبر الناس عن ( النبأ العظيم ) الذي شغله حتى أبان بعضاً من أحوال هذا النبأ العظيم
ومن ارتاض في رياض العربية ونهل من معينها وقرأ صحيح شعرها ونثرها ، وتشربت نفسه بالكلام البليغ ، فإنه إذا جاء عند القرآن وجدا شيئاً فوق طاقة وقدرة البشر ، ولذا قال الوليد بن المغيرة واصفاً القرآن وهو غير مسلم : «والله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى عليه».
وكل القرآن معجز في لفظه ومعناه، وغاية جهد القاريء أن يتلمس ويحاول توصيف هذا الإعجاز بما يسر الله، كما سنحاول في هذا المقال إن شاء الله.
في مفهوم الإعجاز في القرآن
قد تكلم علماء العربية وأهل البلاغة واللغة والمفسرون وكثير من أهل العلم في أسباب كون القرآن معجز لا يمكن الإتيان بمثله، ولماذا التحدي المفتوح الذي ورد في قوله تعالى :
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء:88].
لماذا لا يمكن الرد على هذا التحدي ولا إبطاله، بما لا طائل من إعادته هنا ، غير أن الإشارة إلى مسألة فارقة قد يعين على فهم هذا التحدي، وذلك عن طريق تحليل الخطاب لمحاولة فهمه:
فالقرآن في البداية تحداهم بالأكبر بأن يأتوا بمثله، فلما عجزوا ، تحداهم بعشر سور، فلما عجزوا طلب سورة واحدة فقط، فلما عجزوا أعلن أنهم لو اجتمعوا وحضر معهم الجن ظهراء لهم فلن يأتوا بمثله أبداً!
والسؤال لماذا ؟ وما معنى المثلية في الآية ؟ هل المقصود بها اللفظ نفسه ؟ أم المعنى ؟ أم الاثنين؟ ستجد هنا أن من تكلم عن أوجه الإعجاز من البلاغيين ربما شرح لك ما يتعلق ببلاغة الألفاظ والأساليب ونحوها لتظهر لك نظرية ( النظم ) عند الجرجاني ،والبعض يشرح ما يتعلق بالمعاني وكون القرآن يأتي بالمعجز من أخبار المستقبل ، والمعجز من أخبار الماضي ، ويأتي بالأحكام العادلة التي لا حكمة بعدها حتى يقول الشاطبي في وصف جميل سأنقله بنصه :
«إن كتاب الله قد تقرر أنه كلية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخالفه. وهذا لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه؛ لأنه معلوم من دين الأمة. وإذا كان كذلك لزم ضرورة لمن رام الاطلاع على كليات الشريعة وطمع في إدراك مقاصدها، واللحاق بأهلها، أن يتخذه سميره وأنيسه، وأن يجعله جليسه على مر الأيام والليالي، نظراً وعملاً، لا اقتصاراً على أحدهما، فيوشك أن يفوز بالبغية، وأن يظفر بالطلبة، ويجد نفسه من السابقين وفي الرعيل الأول.»
فإذا علم هذا، فأين يكمن الإعجاز على وجه التحديد؟
كل ما سبق ذكره صحيح، لكن الحد الفاصل الذي لا يجب أن يغيب عن الذهن في خضم البحث عن الصورة الجزئية أن ننظر في الصورة الكلية وهي أن القرآن لما كان كلام الخالق، فمن البدهي أن يكون من المستحيل عقلاً وكوناً على البشر أن يأتوا بمثل كلام الخالق ، فهو الخالق سبحانه كلي القدرة وكلي العلم، لا تنفد كلماته ولو كان البحر مدادا لكلماته سبحانه لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته، وكلام البشر ينفد، يعلم سبحانه كل شيء والبشر لا يعلمون شيئا إلا ما علمهم وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة!
وهذا الإعجاز مثل تحدي الإعجاز بالخلق عندما قرر القرآن، أنهم لن يستطيعوا أن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له!
وقد يقال إنه في مسألة الخلق لم يتحدّهم القرآن، بينما تحداهم في الإتيان بمثل هذا القرآن ، فهناك فرق!
والجواب أن الخلق لا يدخل في حساب التحدي لأن البشر عاجزون أصالة عن الخلق، بينما في الكلام لديهم القدرة على الكلام وتوليد اللفظ والمعنى ولأنهم عرب بلغوا من الفصاحة منتهاها في نظرهم كان لديهم الغرور أن يقولوا في البداية من باب دحض حجة النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من القرآن ، أن هذا الكلام كلام بشر، وأنه من كلام السحرة أو الكهان أو المجانين، فجاء التحدي رداً على توصيفهم الباطل للقرآن.
ولما نزل التحدي عجزوا فوراً ، لأن هذا التحدي في حقيقة الأمر من باب التبكيت لهم وإلا فالنتيجة محسومة سلفاً بأنهم لن يستطيعوا هم والجن والإنس مجتمعون أن يأتوا ولو بآية من مثل القرآن الكريم!
لأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال مقارنة كلام الخالق بكلام المخلوق!
سورة يوسف وأحسن القصص
كل قاريء للقرآن يستقبل القرآن بتأثير يختلف عن غيره بحسب ما وصل إليه من العلم بلسان العرب وعلوم الأدب واللغة، وكلما زاد نصيب القارئ من هذه العلوم كلما تأثر ببلاغة وفصاحة القرآن الكريم ، حتى لا يدانيه شيء وقد حكي أن لبيداً الشاعر المعروف لما أرسل له عمر يستنشده شعره في الإسلام، قال: قد أبدلني الله بالشعر سورة البقرة وآل عمران.
وهكذا كل من يبلغ في الفصاحة والبلاغة المكانة العالية يجد أن شيئا من كلام البشر لا يعدل آية من القرآن الكريم، فيكتفي بكتاب الله يقرأه ويصبح هو الزاد الذي لا يعدله زاد والأنيس الذي لا أنيس معه، وهذا صحيح يعلمه كل من جرب حفظ جزيل القصائد وبديع النثر والأدب، ثم أكب على القرآن دراسة وحفظا..
وكل القرآن معجز في لفظه ومعناه، وغاية جهد القاريء أن يتلمس ويحاول توصيف هذا الإعجاز بما يسر الله، ومن السور التي فتن أهل البلاغة والفصاحة بإعجازها سورة يوسف .
وقد كانت سورة يوسف سلوة للمحزونين وتصبيراً للمبتلين ، حتى قيل إنها نزلت عام الحزن لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتخفيف حزنه في وفاة عمه وزوجته خديجة رضي الله عنها.
وكل من أصيب بمصاب إذا قرأ سورة يوسف فسيجد حتماً فيها من التعزية والتسلية ما ينسيه هم المصيبة ، كما قالت الخنساء:
ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي
فمن رأي مصاب يعقوب عليه السلام في ولديه، ويوسف في نفسه هانت عليه مصائبه ولذا قال الله عز وجل عن قصة يوسف ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ﴾ [يوسف:٣].
ويقرر ابن عاشور أن أحسن ليس المقصود منها تفضيل قصة يوسف على غيرها من قصص القرآن ، وإنما هي على شرط الإطلاق فقصص القرآن أحسن على الإطلاق.
وهو معنى كلام الزجاج إذ قال أن أحسن القصص هنا : أحسن البيان ، وعقب عليه الواحدي بقوله : لا إلى القصة، ولو قيل: أحسن القصص، بكسر القاف على جمع قصة، قلنا نحتاج أن نذكر لم قيل هذه القصة أحسن القصص؟. انتهى كلام الواحدي.
وإنك إذا تأملت سورة يوسف وجدتها كما وصفها الله عز وجل أحسن القصص ، ففيها من أعاجيب القص والحكاية وفيها ما لا يوجد في غيرها من القصص .. حتى أن الثعلبي طرح هذا السؤال وحاول الإجابة عليه بحكاية عدد من الاقوال فلتراجع في تفسيره الكشف والبيان.
ويمكن لكل ناظر في سورة يوسف أن يستخرج ماشاء الله من الحكم والفتوحات العلمية والإفادات الجليلة ما لا يسعه كتاب ، لكن المقصود في هذه الورقات أن نتأمل الإشارة الخفيفة والعبارة اللطيفة ، وأن نترسم معالم الإعجاز وأسرار البلاغة وفي سورة يوسف عليه السلام الكثير منها فهذا أوان الشروع في تأمل أسرار السورة الكريمة على غير ترتيب في الآيات وموضعها من السورة:
سنركز على إعجاز اللفظ المختصر الذي يحمل المشاهد والمعاني الكثيرة في بضع كلمات ونضرب عليها بعض الأمثلة وبالله التوفيق.
أمثلة من الإيجاز الإعجازي في السورة
المثال الأول : قوله تعالى ﴿ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا﴾
بلاغة هذه الآية وإيجازها إعجاز لا يقدر عليه بشر ، حتى إن القاضي عياض نقل عن أبي عبيد في الشفا: أن أعرابياً سمع رجلاً يقرأ: ( فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا ) ، فقال : أشهد أن مخلوقاً لا يقدر على مثل هذا الكلام.
ومهما قال المفسرون فإن الآية نفسها تفصح عن نفسها للمتأمل والمتدبر لها، فإنك ترى القصة والمشهد الطويل من المحاولات المتكررة لإخوة يوسف معه حتى يطلق أخاه ويرسله معهم بعدما أخذه عنده كما هو معلوم من الأحداث قبل هذا المشهد، وكأنك تراهم وهم في حالة اليأس من المحاولات وطرح المعاذير والأسباب ليوسف العزيز ، وكيف شرحوا له كل ما يمكن أن يساعدهم في إطلاق سراح بنيامين ، وهنا حاولوا بشدة وبذلوا كل جهد ممكن عكس ما كان من تفريطهم في يوسف حين ألقوه في غيابة الجب.
أما هنا فالمشهد مختلف جداً، فهم قد فعلوا كل ما يمكنهم لاستنقاذه حتى وصل الأمر أن يعرضوا على العزيز أن يأخذ واحداً منهم ويطلق سراح بنيامين بالذات!.. ارايتم كيف يقلب الله عز وجل الأمور؟ حتى صار المفرطون في يوسف يكادون يبذلون أنفسهم لإطلاق أخيهم الصغير! وهذي من عجائب القصة.
الحاصل أنهم بذلوا كل شيء حتى يئسوا وعبر القرآن بلفظة استيأسوا ، وكأنها تشرح لك حالهم حيث لم ييأسوا ، بل استيأسوا فقد فعلوا كل شيء ، ولو كان أن يبذلوا نفوسهم لتحرير أخيهم ، حتى بلغ بهم اليأس مبلغه.. وهنا انقطعت الأصوات وسكنت اللحظة وهم في مجلس العزيز أثناء المحاولات ، وعددهم عشرة عندها جاءت اللحظة .. لحظة الحقيقة بعد تيقنهم من أن أخاهم لن يعود معهم.
حينها عبر القرآن بالوصف البالغ الفصاحة يصف مشهد خروجهم من مجلس العزيز يكسوهم اليأس والإحباط ، بقوله: ( خلصوا نجياً ).
وكأن المكان كان خليطا من العمال والحجاب وأصحاب الحاجات والعزيز يوسف عليه السلام ، وإخوته العشرة.. ثم تراهم يخلصون حسب الوصف القرآني، أي يخرجون لينفردوا لوحدهم، وأتخيلهم ينسحبون ويخرجون من المجلس يتهامس بعضهم مع بعض ، حتى إذا انفردوا عن الناس ولم يكن معهم غيرهم وأثناء المناجاة والصوت الخفي المليء بالإحباط ، تأتي صيحة الألم من الأخ الكبير، حين قال :
﴿ قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾ [يوسف:٨]
إنني أتخيل المشهد ، بعد الحديث الهامس بينهم والتناجي الذي كان يدور حول كيف يتداركون الأمر ويخرجوا من هذه المصيبة العظيمة التي حلت بهم، حينها تأتي لحظة الحقيقة المؤلمة التي عبر عنها الأخ الأكبر حيث رفع صوته وخرج من لحظة التهامس إلى لحظة مواجهة الحقيقة فقال مذكراً؛ ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله؟ وفي الوقت نفسهم ذكرهم بتفريطهم في يوسف عليه السلام، وقد قال بعض المفسرين إن هذا الأخ الأكبر هو نفسه الذي قال لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب ، وهذا معقول جدا لأنه هو نفسه كان مستعداً لتحمل نتيجة ما حدث فأعلن تحمله كل ما يحدث وأنه لن يترك مصر ولا يعود حتى يأذن له أبوه أو يحكم الله له.
إنها لحظة المواجهة للحقائق على لسان الأخ الأكبر ، حتى أنه حملهم رسائل لوالدهم في الآيات التالية.
والمقصود هنا أن هذه الجملة المكونة من خمس كلمات ( فلما استيأسوا منه خلصوا نجياً) شرحت موقفاً كاملا عصيبا ، وحملت ألفاظها وعباراتها الموقف برمته وجعلت القاريء يقرأها وكأنه معهم ، مدرك لموقف الإخوة ويأسهم وإحباطهم ثم انسحابهم وتناجيهم يفكرون في التعامل مع المصيبة التي حلت بهم ، ولذا لا غرابة أن يقول الأعرابي : أشهد أن مخلوقاً لا يقدر على هذا الكلام.
ملحظ بلاغي ، الإيجاز البلاغي المعجز نراه في التفاصيل ذات الطبيعة البشرية ، والمتعلقة بالأحداث ، هنا نجد القرآن يوجز العبارة بأبلغ لفظ ، بينما في مقام التعليم والتذكير ، تجد القرآن يطنب وتفيض الألفاظ والأساليب لتقرير الحقائق والحكم الإلهية .. كتقرير يوسف لصاحبي السجن عن الله رب العالمين ، والأسماء التي يعبدونها من دون الله . لأن المقصود هو تعبيد النفوس لله عز وجل.
وكذا نجد الإطناب والتفصيل في مقام تعداد نعم الله عز وجل على لسان يوسف ،
المثال الثاني : ﴿يلتقطه بعض السيارة﴾
لم يرد اللفظ قافلة أو عير هنا ، بل ورد اللفظ ورد مرتين للدلالة على مجموعة غير القوافل المعتادة .. لأن القوافل تسير بالأشهر ، وكذلك العير تحركاتها محسوبة لأغراض محددة ، بينما يبدو من اللفظ أن السيارة مجموعات صغيرة تتحرك بشكل يومي وتمر على مواضع الماء بشكل مستمر وفترات متقاربة
ولفظ السيارة ، جاء لفظ السيارة للدلالة على مجموعة تمتهن السير بالقوافل أو النقل ، وهذا يعني أنها كثيرة التردد والتنقل والمرور على الآبار والجباب، وكأن إخوة يوسف الذين لم يريدوا قتله اقترحوا وضعه في الجب وهم مطمئنون أنه سيأتي قطعا أحد مجموعات السيارة التي تلتقطه من البئر ، يلتقطه بعض السيارة ، في إشارة إلى أن هذا القائل رغم كل شيء ما زال حريصا على بقاء يوسف حياًَ،
المثال الثاني: ﴿وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً﴾
﴿ وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً﴾ [يوسف: ١٩]
قال الزجاج : الوارد الذي يرد الماء ليسقي للقوم.
(فَأَدْلَى دَلْوَهُ) : يقال: أَدْلَيْتَ الدلْوَ إذَا أرْسلتَها لتملأها، وَدَلَوْتَها إذَا أخرجْتَها.
هذا مشهد بديع، مليء بالحركة بطيئة الرتم، والجمال والإيجاز الإعجازي الذي يتمثل في سورة يوسف، ففي كلمات قليلة مشهد كامل يشرح لحظات القافلة قبل أن تتوقف من أجل الماء، هذه القافلة وصفت في مكانين بأنها: ( سيارة ) قالها بعض إخوة يوسف (يلتقطه بعض السيارة)، وهنا يأتي مشهد السيارة التي جاءت!
انظر إلى الأفق البعيد وراقب مجيء القافلة التي تتوقف لحاجتها للماء، وأهل السفر خبراء بمعرفة مواطن المياه ومواقع الآبار، وعندهم المعرفة والأدوات اللازمة للحصول على الما، يشرح البغوي المشهد هنا بأن السيارة كانت رفقة من مدين تريد مصر ، فأخطؤوا الطريق فنزلوا قريباً من الجب، وكان الجب في قفر بعيد ، فلما نزلوا أرسلوا رجلاً من أهل مدين لطلب الماء، فذلك قوله فأرسلوا واردهم، والوارد الذي يتقدم الرفقة إلى الماء فيهيء الأرشية والدلاء، فأدلى دلوه أي أرسلها في البئر ، فتعلق يوسف بالحبل فلما خرج فإذا بغلام أحسن ما يكون.
هذا الشرح للمشهد، أوجزته الآية الكريمة في ألفاظ بليغة أوصلت المعنى بأتم ما يكون وبدون الحاجة لذكر التفاصيل التي هي في حكم المعلوم أصلا. فعندما يأتي اللفظ القرآن بكلمة ( واردهم ) فالوارد والورود في تصريفاته العربية يدل على من يذهب ليستقي الماء،فلا حاجة لشرح مستفيض وأنت تعلم دلالة اللفظ نفسه على المعنى.
ثم انظر إلى اقتصار العبارة على جملة فأدلى دلوه. أنت تعلم مسبقاً أن يوسف عليه السلام مغيب في الجب، وتتوقع في هذه اللحظة بنفس متلهفة ماسيحدث؟ فيأتيك القرآن بما بالوصف البديع، الرجل الوارد على الماء يتفاجأ ويرفع صوته، يا بشرى!
يصرخ بالبشرى لما شاهده عندما سحب الدلو، يوسف متعلق به يصعد والرجل يسحب حتى ظهر وجه يوسف عليه السلام فقال الرجل يا بشرى هذا غلام! ومن الواضح أن الرجل هنا لم يكن لوحده، بل معه شخص آخر، ولذا قال بعض أهل التفسير إن الشخص الآخر اسمه بشرى وأن النداء له وليس من معنى البشارة.
الشاهد أن الآيةتوقفت عن التعبير بأكثر من هذه العبارة: يابشرى هذا غلام!
إن توقف الآية عن الشرح أكثر، مؤذن بمعرفة المشهد التالي، فالرجل(يقول البغوي إن اسمه مالك بن ذعر) من الواضح أنه يعتبر نفسه قد حصل على المال ولذا رفع صوته بالبشرى، وفي قراءة ( يا بشراي ) كأنه يبشر نفسه بما حصل عليه، لأن عبارة: هذا غلام مؤذنة بما سيحدث بعدها، ولذا جاء التعبير بالعبارة التي تجعلك تكتفي بما لديك، ولا تطلب الاستفصال جاءت اللحظة المؤلمة: وأسروه بضاعة!
نبي الله الكريم ابن الكريم ابن الكريم كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم يصبح بضاعة يباع بثمن بخس وهم فيه زاهدون!
لقد فهمنا الآن سبب عبارة الرجل هذا غلام! لأن المسألة ستصبح تجارية، غلام يخرج متعلقاً بالدلو، لا أحد له وليس معه سوى الله عز وجل، سيصبح بضاعة،يخفيها الوارد ورفيقه عن بقية القافلة حتى لا يشاركوهم في ثمنه، ولكن لأنه غلام فيما يبدو صغير السن والبنية لن يكون منه ذلك المكسب الكبير، ولذا سنرى في الآيات التالية، أنهم باعوه بثمن بخس وكانوا فيه من الزاهدين.
المثال الثالث: ﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ﴾
﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ ٱلعِيرُ قَالَ أَبُوهُم إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَولَا أَن تُفَنِّدُونِ﴾ [يوسف: ٩٤]
عبارة فصلت العير عبارة في غاية الإيجاز والإعجاز، فهي تشرح لك حكاية كاملة من الحركة حين تحركت القافلة منطلقة من مصر نحو الشام، فكأن عبارة ( فصلت ) تعطيك مؤشراً للانتقال بين الحدود الجغرافية لمصر والشام، وجاءت هكذا بدون أي معمول للدلالة على عموم الانتقال ، فهو انتقال وانفصال بين منطقة ومنطقة ، بدون أن يحدد السياق القرآني أين كانت تلك المنطقة، بينما لا يرى الطبري أهمية المكان بقدر أهمية الأشخاص ، فيقول : «ولما فصلت عير بني يعقوب من عند يوسف متوجهة إلى يعقوب، قال أبوهم يعقوب إني لأجد ريح يوسف».
فاهتم الطبري بمحوري القصة هنا وهما يوسف في مصر ويعقوب في الشام ، بغض النظر عن مكان انفصال العير المكاني.
ولذا قال ابن فارس في مادة (فصل) : الفاء والصاد واللام كلمة صحيحة تدل على تمييز الشيء من الشيء وإبانته عنه. ( معجم مقاييس اللغة )
وفي الآية ملمح بلاغي آخر في قوله : ﴿ لَولَا أَن تُفَنِّدُونِ﴾.
معظم أقوال المفسرين، تدور حول معنى رئيس وهو أن يعقوب يخبر من بقي عنده من ذريته وأهله أنه يجد ريح يوسف وأنه متأكد من ذلك لولا خشيته من أن يسفهوا رأيه وينكروا عليه .
قال أبو حيان بعد أن حكى الأقوال في معنى تفندون وهي: تسفهون ، تجهلون ، تضعفون، تكذبون، تهرمون، تقولون ذهب عقلك وخرفت. تقبحون، تعجزون ، تضللون، تخطئون.
قال : وهذه كلها متقاربة في المعنى، وهي راجعة لاعتقاد فساد رأي المُفَنِّد إما لجهله، أو لهوى غالب عليه، أو لكذبه، أو لضعفه وعجزه لذهاب عقله بِهَرَمِهِ.
ثم نقل عن الزمخشري قوله : قال الزمخشري: المعنى لولا تفنيدكم إياي لصدقتموني.
والحاصل أن كلام أغلب المفسرين هنا يدور على اعتبار لولا حرف امتناع لوجود وأن جوابها محذوف، أي لولا تفنديكم إياي لصدقتموني.
وربما لو اعتبرنا لولا بمعنى التحضيض والعرض لكان هناك معنى آخر محتمل، وهو أنه يخبرهم أن يجد ريح يوسف، وأنه متأكد من أن يوسف حي ولم يمت، ويطلب منهم أن يردوا كلامه ويبطلوه إن كانوا قادرين..
ولذا جاء جوابهم في الآية التالية لعجزهم عن إبطال قوله لعدم قدرتهم أصلا على الإبطال كون ما وجده يدخل ضمن سياق التجربة الشخصية التي لا يمكنهم أصلاً فهمها ولا المشاركة فيها من حيث أن يعقوب عليه السلام يشم رائحة يوسف، ويخبرهم بذلك، وهم قطعاً لا يجدون تلك الرائحة، فليس لديهم قدرة على إبطال هذا الأمر، ولذا لم يكن في قدرتهم أكثر من أن يردوا عليه بأنه يعيد ويكرر خطأه فيما يخص يوسف بعد تجديد الأحزان بسبب بنيامين، فقالوا له : تالله إنك لفي ضلالك القديم.
ولم أجد من أشار لهذا المعنى من المفسرين السابقين، فإن كان صواباً فمن الله ، وإن كان خطئاً فمن نفسي ومن الشيطان.
المثال الرابع : ﴿ يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾.
هذه الجملة من أمثلة البلاغة العالية والمعاني المبتكرة التي في القرآن الكريم، لأنك إذا نظرت إلى ظاهر اللفظ وهو خلو الوجه، يرد عليك سؤال: كيف يخلو الوجه ونحن نعلم أن شيئاً لا يظهر على الوجه؟ وإنما المحبة تكون في القلب؟ وقد كان سبب حسدهم ليوسف وأخيه في البداية أن قالوا: ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا! والمحبة مكانها القلب؟ فلم قيل إذن اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخلُ لكم وجه أبيكم؟
يمكن أن نتصور الجواب بأن يقال: إن المحبة التي محلها القلب تظهر بشاشة وفرحاً على وجهه عندما يرى المحب محبوبه ، ولعل هذا ما كان يلاحظه إخوة يوسف عندما كان أبوهم يرى يوسف وبنيامين فيظهر على وجهه السرور والسعادة! وكانت خطة إخوة يوسف العمل على قتل يوسف أو طرحه حتى لا يعود ليعقوب فرصة أخرى لرؤية يوسف ، ويكون وجهه خالياً من البشر والسرور الذي يظهر عندما يراه وأخاه، وكل ذلك سببه الحسد والعياذ بالله.
وقد نجح الإخوة في الجناية على أبيهم وخلا وجهه من البشاشة والسرور، وأدخلوا أباهم في حزن مقيم سنين طوال، وتكررت المأساة حتى ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم والله المستعان.
الخاتمة:
كانت هذه الورقة محاولة لتلمس بعض أوجه الإعجاز في الإيجاز في سورة يوسف ، اخترت أربعة أمثلة تبين المقصود، ركزت فيها على الاستفصال والشرح للصورة المصاحبة للألفاظ من خلال محاولة فهم ما يدور من أحداث في القصة المذكورة في السورة، بعد النظر فيما تيسر من أقوال المفسرين.
ولم يكن اختيار الآيات سوى لضرب المثال، عن الفكرة، وإلا فالسورة مليئة بالإعجازات البلاغية والبيانية التي تكلم عن كثير منها أهل العلم واللغة والأدب، وأرجو أن أن أكون وفقت فيما قصدت والله أعلم.