كتب الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله قديما مقالة عنونها بـ ( من شوارد الشواهد ) ينسب فيها بعض الأبيات الشهيرة لقائليها ، ثم أخرج المقال في كتاب صغير بلغ عدد الشواهد ٦٤ شاهداً شعرياً
وأنا في هذا المقال أكمل ما بدأه الشيخ وأورد بعض الأبيات الشهيرة وأنسبها لقائليها وربما علقت عليها بما يناسب..
وهذا أوان الشروع في المقصود :
١- وكلُّ إِناءٍ بالذي فيهِ يَنْضَحُ
أصبح مثلاً شهيراً ، وهو جزء من بيت للحيص بيص وهو : أبو الفوارس، سعد بن محمد بن سعد بن الصيفي التميمي، البغدادي عاش في العصر الأيوبي، لقب بهذا اللقب قيل لسببين ، الأول أنه استخدم الجملة في وصف حركة وجلبة كانت تحدث أمامه والثانية أنه قال بيتاً استخدم فيه كلمة حيص بيص ، فلحقه اللقب.
والشطر المذكور جزء من قصيدة فيها :
مَلكْنا فكان العَفْو منَّا سَجيَّةً … فلمَّا ملكْتُمْ سالَ بالدَّمِ أبْطَحُ
وحَلَّلْتُمُ قتلَ الأسارى وطالَما … غَدوْنا عن الأسْرى نَعفُّ ونصفَح
فحسْبُكُمُ هذا التَّفاوتُ بيْنَنا … وكلُّ إِناءٍ بالذي فيهِ يَنْضَحُ
٢- لا تخف ما فعلت بك الأشواق … واشرح هواك فكلنا عشاق
للشاب الظريف محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله التلمساني، شمس الدين (661 هـ – 688 هـ) مات شاباً وعمره ٢٧ عاماً.
والأبيات التالية :
لا تُخْفِ ما صَنَعَتْ بِكَ الأَشْواقُ … وَاشْرَحْ هَواكَ فَكُلُّنَا عُشَّاقُ
قَدْ كَانَ يُخْفي الحُبَّ لَوْلَا دَمْعُكَ ال … جَارِي وَلَوْلا قَلْبُكَ الخَفَّاقُ
فَعَسى يُعينُكَ مَنْ شَكَوْتَ لَهُ الهَوى … في حَمْلِهِ فالعَاشِقُون رِفَاقُ
٣- بروحي تلك الأرض ما أطيب الربا … وما أحسن المصطاف والمتربعا
هكذا تلاعب الرحبانيان في القصيدة حتى تغنيها فيروز ، وأما الأبيات الأصلية للشاعر فهي :
بِنَفسيَ تِلكَ الأَرضُ ما أَطيَبَ الرُبا … وَما أَحسَنَ المُصطافَ وَالمُتَرَبَّعا
وَأَذكُرُ أَيّامَ الحِمى ثُمَّ أَنثَني … عَلى كَبدي مِن خَشيَةٍ أَن تَصَدَّعا
فَلَيسَت عَشيّاتِ الحِمى بِرَواجِعٍ … عَلَيكَ وَلَكِن خَلِّ عَينَيكَ تَدمَعا
والأبيات جزء من قصيدة طويلة للصمة بن عبد الله بن الطفيل بن قرة القشيري، وفي القصيدة البيت الشهير أيضا :
أَتَبكي عَلى رَيّا وَنَفسُكَ باعَدَت … مَزارَكَ مِن رَيّا وَشَعباكَما مَعا
فَما حَسنٌ أَن تَأتي الأَمرَ طائِعاً … وَتَجزَع أِن دَعى الصَبابَة أَسمَعا
وهذان البيتان ينسبان أيضا لقيس بن ذريح لكن بألفاظ أخرى :
حَنَنتَ إِلى رَيّا وَنَفسُكَ باعَدَت … مَزارَكَ مِن رَيّا وَشِعبا كَما مَعا
فَما حَسَنٌ أَن تَأتِيَ الأَمرَ طائِعاً … وَتَجزَعَ أَن داعي الصَبابَةِ أَسمَعا
بَكَت عَينِيَ اليُمنى فَلَمّا زَجَرتُها … عَنِ الجَهلِ بَعدَ الحِلمِ أَسبَلَتا مَعا
وَأَذكُرُ أَيّامَ الحِمى ثُمَّ أَنثَني … عَلى كَبِدي مِن خَشيَةٍ أَن تَصَدَّعا
فَلَيسَت عَشِيّاتُ الحِمى بِرَواجِعٍ … عَلَيكَ وَلَكِن خَلِّ عَينَيكَ تَدمَعا
وكما ترى فهذه الأبيات متداخلة مع أبيات الصمة بل هي نفسها مع تقديم وتأخير ، وأظن نسبتها لقيس بن ذريح وهم والله أعلم.
٤- لا ناقة لي فيها ولا جمل
أنقل هنا ماقاله الدكتور فاروق مواسي في موقع ديوان العرب :
لا ناقة ولا جمل
الشعر للراعي النُّمَيري- من شعراء العصر الأموي، واسمه عُبيد بن حُصين، وسمي راعي الإبل لكثرة وصفه للإبل.
المعنى ما قطعتُ حبل ودِّكِ حتى تبرأتِ مني معلنة أن الأمر لا يهمني.
العجز هو من المثل “لا ناقتي في هذا ولا جملي”، وقد أورده الميداني- المثل 3538:
“أصل المثل للحارث بن عُبَاد حين قَتَلَ جَسَّاسُ بن مرةَ كليبًا وهاجت الحربُ بين الفرقين، وكان الحارثُ اعتزلها، يريد أنه لا يشارك في الحرب لا مع هذا ولا ذاك.
يضرب عند التبرؤ من الظلم والإساءة.”
يبدو أن المثل بدأ من قول الحارث، فثمة ذكر للناقة التي كانت سببًا في حرب البسوس، فالأصفهاني يذكر في (الأغاني):
“وكان الحارث بن عباد قد اعتزل يوم قتل كليب، وقال: لا أنا من هذا، ولا ناقتي ولا جملي ولا عِدلي، وربما قال: لست من هذا، ولا جملي ولا رَحْلي، وخذل بكرًا عن تغلب واستعظم قتل كليب لسؤدده في ناقة”.
ج5، ص 51.
نعود إلى الميداني في شرح قصة المثل، فيقول:
“وقَال بعضهم: إن أول مَنْ قَال ذلك الصًّدوف بنت حُلَيْس العُذرِية، وكان من شأنها أنها كانت عند زيد بن الأخنس العُذري، وكان لزيد بنت من غيرها يقَال لها الفارعة، وإن زيدًا عَزَلَ ابنتَه عن امرأته في خِباء لها، وأخْدَمها خادمًا، وخرج زيدٌ إلى الشام، وإن رجلا من عُذْرَة يُقَال له شَبَث هَوِيَها وهويَتْه، ولم يزل بها حتى طاوعته، فكانت تأمر راعي أبيها أن يُعَجِّل ترويحَ إبله، وأن يحلب لها حلبة إبلها قَيْلاً، فتشرب اللبن نهارًا، حتى إذا أمست وهَدأ الحيّ رُحِلَ لها جمل كان لأبيها ذَلُول فقعدت عليه، وانطلقا حتى كانا ينتهيان إلى مَتْيَهة من الأرض فيكونان بها ليلتهما، ثم يقبلان في وَجْه الصبح، فكان ذلك دَأبَهُما.
فلما فَصَلَ أبوهَا من الشأم مَرَّ بكاهنة على طريقِه، فسألها عن أهله، فنظرت له ثم قَالت: أرى جَمَلَكَ يُرْحَلُ ليلا، وحلَبَةَ تَحْلب إبلَكَ قَيْلا، وأرى نعمًا وخيلا، [….]،
فأقبل زيد لا يلوى على شَيء حتى أتى أهلَه ليلا، فدخل على امرأته وخَرَجَ من عندها مُسْرِعًا حتى دخل خِباء ابنته، فإذا هي ليست فيه، فَقَال لخادمها: أين الفارعة ثَكَلَتْكِ أمك؟ قَالت: خرجت تمشى وهى حرود، زائرة تعود، لم تر بعدك شَمْسا، ولا شهدت عِرسا، فانفتل عنها إلى امرأته، فلما رأته عَرَفَت الشَّر في وجهه، فَقَالت: يا زيد، لا تَعْجَلْ وَاقْفُ الأثر، فلا ناقة لي في هذا ولا جمل، فهي أول من قَال ذلك.”
وربما أرادت المرأة هنا أن تغمز بدهاء إلى حكاية الفتاة العاشقة التي كانت تركب الجمل.
ثم اشتهر المثل، فكان على ألسنة الناس:
“ذكروا أن محمد بن عمير بن عطارد …لما خرج الناس على الحجاج فَقَال: لا ناقتي في ذا ولا جَمَلِي، فلما دخل بعد ذلك على الحجاج قَال: أنت القائل لا ناقتي في ذا ولا جملي؟ لا جَعَلَ الله لك فيه ناقة ولا جملا، ولا حملا ولا رَحْلا… (ن.م)…
ذكر الشعراء المثل في شعرهم كما رأينا بيت الراعي أعلاه،
أبو نواس:
من عذّب الله بالزنا فأنا
لا ناقةٌ لي فيه ولا جملُ
الشريف الرضيّ:
أرى نهابًا تُساق حافلةً
لا ناقةٌ لي بها ولا جملُ
الطُّغْرائي:
فيمَ الإقامةُ بالزَّوراء لا سكني
بها ولا ناقتي فيها ولا جملي
الشهاب أبو الثناء محمود:
أين الذي بِرّه الآلاف يتبعها
كرائم الخيلِ ممن برُّه الإبِلُ
لو مُثّل الجود سَرْحًا قال حاتمُهم
لا ناقةٌ ليَ في هذا ولا جملُ
هناك أمثال شعبية تدل على هذ ه الحيادية وعدم اتخاذ موقف، نحو:
لا إلي في البقرة ولا في الحلوبة.
لا إلي في الحّبّ ولا في الطاحونة
لا لي في الثور ولا في الطحين
وهكذا أخذ المثل يعني أنني لا أجني فائدة من هذا وذاك، فلا علاقة لي بالأمر إذن.
انتهى بنصه من كلام الدكتور ، وأضيف قصة طريفة سمعتها قديماً عن الأحزاب في السودان أن رجلاً كان في حزب من الأحزاب ، وزوجته في الحزب المعارض ، فحصلت مشكلة ، فقامت المرأة في اجتماع حزبها تقول : أنا مالي في هذه المسألة ناقة ولا جمل ! فقام زول ظريف من حزبها وقال بلكنة سودانية ظريفة : إلا ياست ليكي جمل في الحزب الآخر ..